التاريخ تأويل أهل الحاضر للماضي

*د. حسن مدن

لا تصح المطابقة بين الماضي والتاريخ. انهما مفهومان مختلفات حتى لو بديا لوهلة أنهما أمراً واحدا. التاريخ ليس سوى تأويل أهل الحاضر للماضي، ولذا فإنهم يُسقطون من الحساب ما لا يعنيهم اليوم حين يدونون التاريخ. لم يُكتب التاريخ يوما بحيادية. خلاصة كل التجربة الانسانية تبرهن على ان التاريخ كتبه المنتصر دائما الذي أكمل انتصاره الفعلي بسردية للتاريخ تمجد هذا النصر وتزينه وتُقبح صورة المنهزم، سواء كانت قضية هذا المنهزم عادلة من وجهة نظر موضوعية وحيادية أم غير عادلة. ولأن بيد المنتصر تتجمع، في الغالب، كل خيوط القوة والتأثير فإنه يملك المقدرة على حجب وتغييب الكثير من التفاصيل التي لا تلائم روايته للتاريخ.

من وجهة نظر الباحث في الدراسات الثقافية سايمون ديورنغ فإن الذي ليس له وجود في الحاضر ليس له تاريخ، انه ببساطة يصبح منسياً، ولو سعينا للمزيد من اضاءة مدلول هذه العبارة لقلنا أن الماضي هو ماض فعلاً من حيث أنه وقائع تمت في زمنٍ آخر أصبح خلفنا، أما التاريخ فهو صناعة الحاضر، أي أنه هو نفسه حاضر لا ماضٍ، نوظفه لأغراض الحاضر، النبيل منها والخبيث، وهذا ما يفسر كيف أنه في كل مرحلة من المراحل تجري العودة لوقائع وحقب بعينها من الماضي وتغفل أخرى، وقد تنقلب الآية في مرحلة تالية، حيث يُغيب ما استحضرناه سابقاً ويُبرز من الماضي نفسه نقيضه، تبعاً لمقتضيات صراعات الراهن وغايات صناع الحدث فيه.

عالمنا العربي والإسلامي في لحظته الراهنة مختبر نموذجي لدراسة هذا التفريق بين الماضي والتاريخ، ما يفعله المتصارعون اليوم، من لاعبين محليين وإقليميين، ومن يرعاهم ليس عودة بالمنطقة إلى الماضي، ذلك أن الماضي لن يعود أبداً، إنه ماض وحسب، إنما استلال صفحات سود من ماضينا لتوظيفها في معارك الحاضر.

وبعبارة أخرى فان ما يجري هو كتابة تاريخ، أو إحياء تاريخ سبق أن كُتب، لتجيير ما قيل فيه عن صراعات حدثت في الماضي السحيق، محكومة بعوامل وتوازنات ومصالح ذلك الماضي، لتصبح أدوات في أيدي المتصارعين على مصالح دنيوية صرفة، على النفوذ السياسي وعلى الثروات، يجري توظيف الدين عنوة وخبثاً فيها، بإضفاء الطابع الديني على نزاعات لا تمت لهذا الدين بصلة، فلو نُزعت العمائم، على ألوانها وأهواء أصحابها، لوُجدت تحتها رؤوساً حامية تتنازع على ملذات الدنيا ليس إلا.

يرى غوته انه يتعين إعادة كتابة التاريخ بين حين وآخر. تبدو هذه الدعوة شديدة الجاذبية، ذلك أنها تحرضنا، على ما يظهر، على ألا نستسلم للمرويات المتوارثة، وأن نعيد تدقيقها والبحث عما هو خارجها، بمعنى ما أغفلته سهواً أو عمداً، وخاصة عمداً، إذا أخذنا بعين الاعتبار ما ذكرناه أعلاه من أن التاريخ كتبه المنتصرون، فأقصوا، وهم يكتبونه، كل ما لايتلاءم وأهوائهم ومصالحهم.

لكن عبارة غوتة حمَّالة أوجه. فالدعوة لإعادة كتابة التاريخ بين حين وآخر، قد تؤول على أنها حث لمن آلت إليه الأمور لأن يعيد كتابة التاريخ وفق أهوائه ومصالحه، هو الآخر، فيقصي مرويات اعتمدتها الناس قبل ذلك، خاصة وأنه من المستحيل الجزم بأن إعادة كتابة التاريخ هي، في المطلق، أفضل من كتابته الأولى، فهي نفسها قد تكون تزييفاً لوقائع هذا التاريخ، فيما أصحابها يزعمون انهم يغربلون التاريخ مما لحق به من زيف.

في «المقدمة» صنّف ابن خلدون المؤرخين في خانات، أو طبقات حسب تعبيره، ومن هذه الطبقات: طبقة فحول المؤرخين، وذكر منهم: الطبري، محمد بن يحيى ومحمد بن سعد الواقدي، ممن جمعوا أخبار الأمم في كتبهم. ثم طبقة الجهال، ممن وسمهم بالتطفل لأنهم خلطوا الأخبار بالباطل خطأ أو عمدا، واقتفى بعد هؤلاء جماعة قبلوا هذه الآثار واتبعوها وأدوها كما سمعوها، وتليهم طبقة المقلدين: الذين اتبعوا آثار هؤلاء ولم ينقحوا الأخبار ولم يراعوا طبائع العمران فيما حملوه من الروايات، وأخيراً طبقة المختصرين، الذين اكتفوا بأسماء الملوك والأمصار، كما فعله ابن رشيق في ميزان العمل.

علينا بعد هذا تخيل كيف كُتب التاريخ أو أعيدت كتابته.

لو افترضنا أن تاريخ البشرية كله، بكل ما فيه من معلومات ووقائع وحروب وثورات واتفاقات، كان محفوظاً على أشرطة كمبيوتر، وأن مجموعةً من «الهاكرز» استطاعت الوصول إلى هذه الأشرطة والعبث بها، وتغيير ما هو محفوظ عليها، كيف سيكون حال التاريخ بعد ذاك؟، أو إلى أي مدى نستطيع التيقن من أن التاريخ هو حقاً سجل صادق لما جرى. هذه الفرضية ليست من بنات أفكارنا، وإنما هي فكرة بلغتها مخيلة مؤلف رواية: «بث حي من الجلجلة»، في إشارة إلى الجبل الذي صُلب عليه السيد المسيح، ويريد غور فيدال كاتب هذه الرواية حملنا على التفكير بأن التاريخ الذي ندعي أننا ندرسه ونعرفه كان دائماً عرضة للتزوير.

وفي زمننا هذا حيث تتداخل الأوهام مع الحقيقة فان «تزوير» التاريخ يمكن أن يتحول إلى صناعة متقنة من وجهة النظر التقنية، وقد لا تعرف الأجيال القادمة شيئاً حقيقياً من الذي نعيشه اليوم ونعرفه، حيث يقدم لها تاريخاً آخر نقيضاً للذي جرى، ما يحثنا نحن أيضاً على التساؤل عما إذا كان ما نظنه تاريخاً هو، بالفعل، الحقيقة بعينها، أم أن «هاكرز» من أزمنة ماضية عبثوا به وحرَّفوه وزوّروه، ووصل إلينا بالطريقة التي نعرفها اليوم.

أخطر من ذلك هو أننا نكون قد عاصرنا أحداثاً وعشناها وتفاعلنا مع مشاريع وأفكار ظناً منا أنها الحقيقة المطلقة، التي لايأتيها الباطل من شمالها أو من يمينها، لكن سرعان ما تَكشف لنا أن الأمر ليس هو بالضرورة كذلك، وبالتالي فإن التاريخ الذي عاصرناه ليس هو التاريخ الحقيقي الذي سيقرؤه أبناؤنا وأحفادنا.

هل قدر البشر، إذن، أن يعيشوا في الوهم؟ أيكون الواقع المعيش شيئاً والتاريخ الذي كتب والذي يكتب شيئاً آخر؟

نحن اليوم في عصر تتداخل فيه المفاهيم وتختلط وتتشابك، فتضيع الحدود والفواصل والتقسيمات في الكثير من الحالات، وتطغى انقسامات فرعية على الانقسام الجوهري في المجتمعات، فلا يعود الناس يرون هذا الأخير، ما يجعل الحقيقة غائبة أو مغيبة في الكثير من الحالات، إن لم يكن في الغالب الأعم.

وليس هذا ببعيد أبداً عن إرادة من يحكم العالم اليوم أو يتحكم فيه، بل أنه صلب اللعبة الأيديولوجية الجديدة التي تخلط كل شيء في العالم، فلا نعود نفرق بين الحقيقة والوهم، فذلك من ضرورات أن يُساق الجميع كالنعاج نحو الوجهة التي يفرضها عليهم من بيده الحل والربط.

يشكو المهتمون بالدراسات التاريخية في الغرب من تضاؤل الاهتمام بالتاريخ البعيد والتوجه نحو فحص ودراسة التواريخ الأقرب، بحيث ان دراسات الراهن التاريخية لا تذهب أبعد من عقد الثمانينات في القرن الماضي لتجعل منه حقلا للدراسة، ولم تعد الحوادث التاريخية الحاسمة التي شهدها القرن التاسع عشر او حتى القرن العشرون ذاته في عقوده الأولى التي شهدت حربين عالميتين مدمرتين فضلا عن انبثاق الكثير من الافكار والفلسفات واندلاع الثورات تثير فضول المؤرخين.

تبدو مفردة الشكوى هنا غير دقيقة. إنها على الأرجح مجرد ملاحظة أو تقرير حقيقة، أي أن المهتمين بالتاريخ لا يرون مشكلة في الانصراف عن دراسة التواريخ البعيدة، حتى لو كان هذا البعيد لا يتجاوز قرناً مضى، بل يرون هذا النزوع منسجما مع إيقاع العصر الراهن.

في عالم اليوم تتضاءل المسافات، وربما تتلاشى، بفضل الطيران السريع الذي يمكن أن يقطع في بضع ساعات المسافات الهائلة بين القارات، وتحقق الشبكات العنقودية التواصل الفوري، ولا نقول السريع، بين أطراف العالم، حيث يمكن أن تدار أكبر الصفقات التجارية وتحويل الأموال في هنيهات هي تلك التي تتطلبها الكبسة على زر الإرسال في الحواسيب.

من الواقع أعلاه يطرح دعاة الذاكرة القصيرة السؤال التالي: إذا كان المكان يتضاءل ويتقلص بهذه الصورة، وفق مفهوم القرية الكونية الرائج التي غداها العالم، فما المانع في أن يتقلص الزمان نفسه، فما حاجة عالم اليوم للدراسات التي توغل بعيداً في أعماق التاريخ، وما الذي سنجنيه من انفاق السنوات في دراسة وقائع لا تعنينا في عالم اليوم المحكوم بمصالح جديدة وتوازنات قوة جديدة أيضاً.

هذا التوجه ينطوي على مفارقتين جديرتين بالتأمل. أولاهما آتية من السؤال: هل حقاً إنتفت الأسباب الموجبة لدراسة أحداث وصراعات الماضي، هل انتفت فعلاً مسببات الحروب العالمية، والصراعات الاقليمية والحروب الأهلية، وهذه الأخيرة بالذات ما انفكت تجدد نفسها بدموية أكبر وبنطاقات أوسع في مجتمعات عرفت نظيراً لها في قرون ماضية، وبالتالي: هل تبدو دراسة التاريخ في حالٍ مثل هذه ترفاً؟ أوليست هذه الدراسة ضرورة لفهم الحاضر؟

المفارقة الثانية تتصل بنا نحن العرب، والمسلمين عامة، فإذا كان الغرب ينزع نحو الذاكرة قصيرة الأمد، فإن شرقنا العربي يظهر البرهان، فيما يشهده من انفجارات دموية اليوم، إنه يوغل في الماضي البعيد، مستعيداً من مخزون هذا الماضي مفاهيم وأدوات يجيرها في معارك الحاضر، ولوهلة يشعر الرائي والمتابع منا أننا لسنا في القرن الحادي والعشرين، إنما عدنا القهقرى ألف وخمسمئة عام خلت.

______
*جريدة عُمان

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *