أنَا أُحبُّ اسْمي

خاص- ثقافات

محيي الدين كانون *

منذ أنْ  خرجَ  إلى الدُّنيا، وهو يسْمع الآخرينَ  حينَ   ينادونه  لحاجة  من تلك  الحاجاتِ اليوميّة :”  يا … نمرود  يرحم الله والديك ” ، وعندما يسمع كلمة ) نمْرود ( يتسائلُ في نفْسِه:    ــــــ   ما معنى  اسم ) نَمْرود)…ولماذا يترحّمون على والديهِ كُلّمَا  يحتاجونه ؟ !

    عيْناه الصغيرتان تشُّعان ذكاءاً  نادراً،  ويَحْلو له  أن يمطّطَ  كامل جسدَه تحت عين الشمس، فتتوهج  فروته  البيضاء  الناعمة على أرضية الحديقة، ويتكاسل  هناك  لساعات طويلة  في النّهار، و حين المساء  وقدوم  الليل ينْطرح  في ركنهِ من الشُّرفةِ حيثُ تطلُّ غُرفة (حازم ).

  كان )حازم ( يُحبُّ) نمرود ( كثيراً، ويعْطِفُ عليه، لأنِّه أنيس وذكي، وله عيْنان تبْرقان بِمزيجِ  من لوْني الأخْضر والأزْرق أحياناً، وأُخرى فُسْفورياً.

يأتيُّه  في كُلِّ صبَاح  ومساءِ بآنيةٍ  صغيرةٍ  من الحَليبِ، ويقولُ له:

  ـــ  يا ليَّتُ كان اسْمك أليفا وأنيسا مثلك …أنا لا أحب اسم نمرود.

   كان يردد عليه دائما هذه الجملة، ولكن  عندما سمعها نمرود في هذا الصباح الجميل، حرّك رأسه الصغير باتجاه حازم، وهو يرمقه بعينين  ساهمتين  يشع  منهما ذلك البريق الغامض :

    ــــ    أنا  لا أغيْر اسْمي …جئتُ لهذه الدنيا ووجدتْه أمامي.

ردّ) حازم ) برّقةٍ  لا متناهيةَ وبصوتِه العذب :

 ـــ    لكنّ  هذا الاسم  قديم لا يُناسبك، ولا يدلُّ عليكَ .

   سَحب ( نمرود ( لسانَه الصَّغير، وشَفَط لمسةً  أخرى سريعة   من الآنية متذوقاً الحليبَ، وعرَف أنّهُ طازجُ دافىء ومذاقَه طيبُ، ثم أخذ عِدّة شفْطاتٍ متتاليةٍ، ومسحَ  في آخر شفطةٍ حواشي شاربيهِ بقائمتِه اليُسْرى  قائلا  :

ـــ    يا ليّتك يا (حازم ( تُساعدني في مَعْرفةِ  هذا الاسْم  ومعناه  ولماذا ــ  دونَ غيرِه ــ ينادوني به  ؟

*  *  *

      في اليوم التالي، عند  تعامد  شمس الظهيرة،  جاء (حازم (  مستبشرا بآنية الحليبِ     كالعَادة بيْنما كانتْ الشمسُ   تغمر الكونَ  بِدفئها ، وتَمد ضفائرَها الذهبية  في محيطِ  الشُّرفةِ، رَبَت على رأسه  قائلا :

     ــــ   منذُ اليوم   أُناديكَ باسم  ( الَنمْرود  الصغير ) ولا أطلب منْك تغييرَه  أبداً.

     اندهش ) نمرود ( لهذا القولِ  الغريبِ  ، ومَدّ  قوائمَه الأمامية ، واسترخى كامل جَسَده تحت  لحاف  الشمس الدافئة،  كان متحمساً   لِسماع  المزيدَ من ( حازم    (محَدْقاً  بعينين  مُركَزَتيّن  في ترَقُّب  دون  أن يطْرف  إحدى  جَفْنتيه الصَّغيرتين  :

   ــــ  لماذا ؟!

لكن  (حازم ( لم يجبْه عن سؤاله وبادره.

      ــــ    أتذكر والدتك يا نمرود ؟

       ــــ   لا …لكنّ سمعتُ  من العم  ( جَمْر ( بأنني من تسبب في موتها.

 وبفَرحٍ طفولي  قالَ (حازم ( وهو يرمق وبَرَه الأبيضَ الناعم َ:

–       هي لم تَمُت بل أعطتك حياتَها واسْمَها … .

   قفز( نَمْرود ( واقفاً  ممداً  قوائمَه الأماميةَ، وقد بدا  كبيراً، بيْنما  يرمقُ الشّمسَ تميلُ قليلاً وتسحبُ ضفائرَها  خارجَ الشرفةِ  .باندهاش  مفعمٍ  بالحيرة  قال( نَمْرود  ) :

ـــ      كيف ؟

ــــ      حكى ليّ العمُّ   ( سليم )  أن والدتك دفعت بك فوق الرصيف، وعلقت هي تحت عجلات  سيارة   مسرعة ……كان موتُها مريعاً في سبيل إنقاذك .                                                   .           .

    تحَمَسّ)  حازم ( أن يروي كاملَ القصةِ ،   وبطريقتهِ  التمثيلية  االتصورية  ،  ولاحظ  أثناء ذلك ، أن جفْني (نمرود( أخذت تطرفُ كثيراً وبسرعة متتالية:

  ــــ     شَهِدَ على ذلك العم  ( سليم (، وقالَ  إنه من سمّاها ( نمرود ة ) لشقاوتها  وحيويتها  وأنسه بها، بعد موْتها، قامَ  هو بدفنْها في حديقة  البيتِ، الحديقةُ  التي تُحبُّ  دائماً اللعِبَ والمرحَ   فيها يا  نمرود .

نَظَرَ (نمرود ) يمنةً ويسرةً ثم اغرورقت عيناه بالدمع وهو يقول :

–         أنا أحبُّ اسْمي .

وقفزَ إلى فناءِ الحديقةِ مسرعاً  يكفْكِفُ دموعَه  قبل هبوط  الشمس  في الأفق  البعيد .
__________

*     كاتب وأديب من ليبيا

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *