جان كلود غيبو يشخّص أمراض الحضارة الغربيّة

*هاشم صالح

لا أحد ينكر مزايا الغرب العظمى، التي لولاها لما تفوق على كل شعوب الأرض. وكنا قد تحدثنا عنها أكثر من مرة، وأشدنا بها كل الإشادة. لكن هذا لا ينبغي أن ينسينا النواقص والعيوب. وهذا ما يعترف به كبار مثقفي الغرب نفسه، ويقف في طليعتهم الآن في فرنسا المفكر جان كلود غيبو، صاحب الكتاب الشهير: ولادة عالم جديد.

فمن هو هذا الشخص يا ترى؟ من هو غيبو؟ إنه المفكر المرموق في فرنسا حالياً، بعد أن أصدر كتباً عدة متلاحقة عرفت كيف تشخص أمراض الحداثة، أو شططها وانحرافاتها.

ولد غيبو في الجزائر العام 1944 عندما كانت مستعمرة فرنسية. فهل لذلك علاقة بموقفه السلبي من النزعة الاستعمارية والإمبريالية الغربية؟ ربما. بل إن ذلك من شبه المؤكد.

أليس الاستعمار هو ذروة الخيانة للتنوير وقيمه الإنسانية الكونية؟ لكن جان كلود غيبو إذا كان قد ابتدأ حياته صحفياً، بل ورئيساً لمنظمة «مراسلون بلا حدود»، فإنه تحول لاحقاً إلى واحد من المثقفين الفرنسيين المعدودين الذين يتنطحون لمعالجة القضايا الكبرى المطروحة على مجتمعات الغرب. فقد حاول تشخيص الأزمة الروحية والأخلاقية التي تعانيها الحضارة الغربية.

كما وصف لنا بشكل دقيق الطفرة الجديدة التي تعيشها البشرية اليوم، والتي ستنقلنا من عالم سابق إلى عالم آخر جديد، تماماً كما حصل في عصر النهضة إبان القرن السادس عشر أو في عصر التنوير إبان القرن الثامن عشر.

 في كل مرة كانت البشرية تشهد طفرة جديدة، وتنتقل من حال إلى حال. وفي كل مرة كانت تولد من جديد. ونحن الآن على مشارف عالم آخر دون أن يدري معظمنا ذلك، كما يقول هذا الباحث اللّامع، حيث شخّص جان كلود غيبو، بشكل جيّد ومقنع، هذا العالم الذي دخلناه مؤخراً، مع انفجار ثورة المعلوماتية، واكتشاف قارة سادسة هي قارة الإنترنت والعالم الافتراضي. فنحن يومياً، ومنذ الصباح الباكر، نبحر في خضم هذه القارة الجديدة للشبكة العنكبوتية. وقد شخّص الباحث ذلك بشكل بارع ولافت للانتباه، من خلال كتبه المتلاحقة، منذ تسعينات القرن الماضي وحتى اليوم. كما شخّص الثورة البيولوجية وثورة العولمة الاقتصادية المرافقتين للثورة المعلوماتية. وبالتالي، فنحن نعيش ثلاث ثورات دفعة واحدة، أو ثلاث طفرات ومخاضات. وعن ذلك سوف ينبثق العالم الجديد للقرن الحادي والعشرين.

في كل مرة، كان جان كلود غيبو يشخّص أحد جوانب المرض العضال الذي أصاب حضارة الغرب وأفسدها أو حرفها عن مسارها التنويري الإنساني الروحاني الصحيح. وفي كل مرة كان يحاول إيجاد العلاج المناسب لها. وقد برهن على رجاحة عقل من خلال هذه التحليلات الثاقبة والعميقة. ولهذا السبب انتشرت أفكاره، ولقيت صدى لا يستهان به في مجتمعات مأزومة أخلاقياً وجنسياً وروحانياً وإنسانياً. وهو يكتب بشكل منتظم في المجلات الفرنسية مثل النوفيل أوبسرفاتور وسواها. كما أنه يلقي المحاضرات العامة في العديد من جامعات العالم.

وعلى ضوء تحليلاته الثاقبة، يمكن الاستنتاج بأن الأصولية التي يعانيها الغرب حالياً لم تعد أصولية دينية، وإنما أصبحت أصولية إلحادية، مادية، إباحية، نسبوية، عدمية. وبالتالي فهي مضادة لأصوليتنا نحن ذات الطابع اللاهوتي القروسطي التكفيري القاطع المانع.

لكلٍّ أصوليته!

يرى الباحث الفرنسي أن الأصولية السائدة في الغرب حالياً تكمن في هيمنة الفكر العَلْمَوي الوضعي التكنولوجي البارد الذي ينكر حتى إنسانية الإنسان، بل ويختزل هذا الفكر الوضعي المتطرف في علمويَّته الإنسان إلى مجرد عناصره الأولية، وقوانينه الفيزيائية وتفاعلاته البيولوجية – الفيزيولوجية. فهو لا يعترف بأي تعال مثالي أو روحاني رباني يتجاوز الماديات. وهذا تيار خطر فعلاً، بل ولا يقل خطورة عن تيار الأصولية الدينية، وإنْ كان بشكّل مختلف أو معاكس. والدليل على الخطورة، محاولته التدخل في التركيبة الوراثية للإنسان، من دون أي رادع أو وازع. بل ويحاول أن يخلق الجنين البشري في أنبوب الاختبار! بالإضافة إلى عمليات الاستنساخ المطبقة على النبات والحيوان، وربما الإنسان ذاته قريباً.

  هذا التطرف العلموي- التكنولوجي المفرغ من كل عاطفة إنسانية، أو قلب أو حتى أخلاق، أصبح يشكل خطراً على مستقبل البشرية، مثل التّطرف الديني، وربما أكثر. فالعلم سلاح ذو حدين، وقد يستخدم في طريق الخير أو في طريق الشر. ولا ننسى الجشع المادي الذي لا يشبع في المجتمعات الرأسمالية، وكذلك عبادة المال والعجل الذهبي، حتى أصبح المعيار السائد ضمنياً في الحياة الغربية هو التالي: قل لي ما هو رصيدك في البنك، أقل لك من أنت، وما هي قيمتك. فإذا كنت تملك مليوناً فأنت أفضل ممن لا يملك إلا نصف أو ربع مليون، حتى ولو كان إنساناً أخلاقياً، أفضل منك بألف مرة. وكلما ازدادت فلوسك، ازدادت قيمتك في نظر الناس. ولا يهمّ من أين تحصل عليها، ولا كيف تنفقها؟

ويعترف جان كلود غيبو بأن الغرب كان في الماضي أصولياً مسيحياً متعصباً، بل وظلامياً. وهو ينتقد بشدة الكنيسة المسيحية كمؤسسة. لأنها خانت رسالة الإنجيل على مر العصور، وبشكل دائم تقريباً. فقد تحالفت مع الأغنياء الأقوياء ضد الضعفاء الفقراء، في حين أن الإنجيل يدعو إلى العكس. كما وحاربت حرية الفكر والروح في معظم الأحيان، واضطهدت العلماء والمفكرين مثل غاليلو وسواه. لكن الكنيسة لم تعد كذلك في وقتنا الراهن. فقد تغير الفاتيكان كثيراً، ولم يعد البابا يرعب الناس، كما كانت عليه الحال في القرون الوسطى. ولم يعد يقمع حرية الفكر. ولم يعد يدعو إلى التكفير والعنف. وبالتالي، فالخطر على الغرب حالياً ليس من جهة الأصولية الدينية، وإنما من جهة الأصولية الإلحادية، كما ذكرنا. وهكذا نلاحظ أن المرض الذي ابتلي به الغرب، غير المرض الذي ابتلينا به نحن. تعددت الأسباب والموت واحد!…

نضرب مثلاً آخر على هذا المرض أو التطرف المتعاكس بيننا وبينهم، هو: التحرر الجنسي. فبقدر ما نبدو نحن قمعيين أحياناً، بل ونمنع حتى الاختلاط بين الرجل والمرأة، من أجل العمل أو الدراسة، أو حتى مجرد التعارف، فبقدر ما يرخون هم الحبل على غاربه، ويعيشون حالة من التسيب الإباحي، بلا أي ممنوعات أو محظورات. وهذا ما شرحه المفكر جان كلود غيبو في كتابه:«استبداد المتعة أو طغيانها على المجتمع الغربي». حتى وصل به الأمر إلى حد أنه صرخ قائلاً: نحن لسنا حيوانات يا ناس!

تطرف بتطرف

هناك تطرف مقابل تطرف: تطرف التسيب والإباحية، مقابل تطرف القمع والكبت الجنسي.. لكن خير الأمور أوسطها، كما علّمنا أرسطو، وكما تقول الحضارة الإسلامية أيضاً.. فالتطرف شيء سلبي، سواء في هذا الاتجاه أو ذاك. والشيء الخطير في الغرب حالياً هو تشريع الشذوذ الجنسي علناً، وصراحة، بل واعتباره قيمة إيجابية، أو حتى قمة الحضارة! وهذا أكبر انحراف يعانيه الغرب، حتى بنظر حكماء الغرب ذاته.

وعلى صعيد آخر، يرى الباحث أنه على الرغم من انهيار الشيوعية عام 1989، وانتصار الغرب الليبرالي عليها، إلا أننا نلاحظ حصول ظاهرة غريبة الشكل: وهي أن الحضارة الغربية لم تعد تمارس القدرة نفسها على الجاذبية، كما في السابق، لا داخل الغرب، ولا خارجه. وفي كل مكان نلاحظ تجليات الرفض للتنوير الغربي، والتّمرد عليه، وعدم الثقة به. ولا يمكن أن نضع كل ذلك على كاهل النزعة الظلامية للأصولية والأصوليين. فكل شيء يحصل كما لو أن النموذج الحضاري الذي يجسده الغرب لم يعد يمارس فعله وديناميكيته وجاذبيته، كما في السابق. إنه يعاني خللاً ما. والسؤال المطروح: هل أصبح ميراث التنوير قديماً بالياً؟ وهل يمكن رفضه كلياً والتخلي عنه؟

 والجواب هو: أبداً لا. فالعلة ليست في التنوير ذاته، وإنما في الانحراف عن سكته ونهجه. فالتنوير لا يزال صالحاً، والعلة ليست فيه على الإطلاق. وإذا كانت الحضارة الغربية مرفوضة من قبل شعوب العالم حالياً، خاصة الشعوب العربية والإسلامية، فذلك ليس عائداً إلى كونها تجسد التنوير، وإنما إلى كونها قد خانت التنوير وانحرفت عنه! فالقيم المدعوة بالغربية (كالحرية، والديمقراطية، ودولة القانون، واحترام حقوق الإنسان، والنزعة الإنسانية، والتسامح الديني، والاعتراف بالتعددية الفكرية، وحق الاختلاف، ورفض العنصرية)، ليست هي السبب، وإنما خيانتنا لها وابتعادنا عنها هو السبب.

هذا ما يقوله الباحث الفرنسي المحترم، وقد صدق. وأكبر مثال على صحة كلامه أن الغرب يرفع شعار هذه المبادئ المثالية التنويرية، ويتبجح بها عالياً، ولكنه لا يتردد لحظة واحدة عن خيانتها، إذا ما تناقضت مع مصالحه المادية. فهو يغضّ الطّرف عن الأنظمة الاستبدادية، إذا ما كانت تابعة له وتؤمن له مصالحه. بل ويستخدم أحياناً شعارات حقوق الإنسان لابتزاز الدول الأخرى وتركيعها بغية قبولها بعقد الصفقات التجارية معه، أومع شركاته. وبالتالي، فانتهازية الغرب أصبحت واضحة للجميع. وكذا الكيل بمكيالين أو معيارين. وقد فقد الكثير من مصداقيته بسبب هذه الممارسات الانتهازية، اللاأخلاقية.

تشخيص الخلل

أعتقد شخصياً أن تشخيص هذا المفكر الفرنسي لمرض الحضارة الغربية عميق ومضيء، وينبغي أن يطّلع عليه المثقفون العرب. والواقع أن المثقفين في أوروبا وأميركا يحاولون، منذ سنوات عديدة، تشخيص الخلل الذي أصاب الحداثة، أو الحضارة الغربية. وتختلف التشخيصات والطروحات من مفكر إلى آخر. لكنّ هناك إجماعاً على أن الحضارة الغربية تعاني أزمة معينة أو حتى مرضاً عضالاً. ويتجلى هذا المرض على هيئة انحرافات عديدة، كالإغراق في شرب الخمور، وتعاطي المخدرات، أو الانزلاق إلى شتى أنواع الشذوذ الجنسي، أو السقوط في أحضان النزعة العدمية والنسبوية، التي لم تعد تميز بين الصحيح والخطأ، أو بين الخير والشر. فكل شيء يتساوى مع كل شيء، ولا أحد أفضل من أحد. وهذا هو معنى النسبوية العدمية. فالشاذ جنسياً في منظورهم هو في مرتبة الإنسان الطبيعي. والزواج بين الرجل والمرأة ليس أفضل من الزواج بين الرجل والرجل!

الجنون الحضاري

هل جنت الحضارة الغربية، أم فقدت صوابها؟ وعلى هذا النحو ضاعت المعالم والصور التي كانت تضبط سلوك الإنسان وتهديه وتحميه من شتى أنواع الانحرافات التي قد تدمره جسداً وروحاً. وتبخَّرت القيم الكونية العامة التي تنظم العلاقات بين البشر. ولتوضيح ذلك يكفي أن نضرب المثل التالي: في العام الماضي، تجرأ نائب ديغولي محترم في شمال فرنسا، وقال:«في رأيي أن العلاقة بين الرجل والمرأة أفضل من العلاقة بين الرجل والرجل». فقامت عليه الدنيا ولم تقعد، على الرغم من اعتدال موقفه وكلماته.. واعتبروه رجعياً متخلفاً، ومعادياً للحداثة والتطور! وقد حصل الشيء ذاته مع الممثل الشهير آلان ديلون، حين عبر في إحدى المرات عن غضبه ونفاد صبره، قائلاً: يا جماعة الرجل خلق على هذه الأرض لكي يعشق المرأة وليس العكس! فأقاموا عليه الدنيا أيضاً، ولم يقعدوها، واضطر إلى التراجع تحت ضغط بنته أنوشكا.. وقس على ذلك.. فما هي الجريمة التي ارتكبها آلان ديلون؟ والآن يريد الغرب أن يفرض هذه الممارسات الشنيعة، وكأنها حق من حقوق الإنسان على كل شعوب الأرض. فعندما زار الرئيس أوباما بلد أسلافه (كينيا) تحدث عن الموضوع، ودعا إلى التسامح مع الشواذ والاعتراف بهم. ولكن لحسن الحظ، فإن الرئيس الكيني نهره، ووقف في وجهه، قائلاً إن هذه الممارسات الشاذة لا تعنينا، وليست مشكلتنا. وقد صدق. فمشكلة الأفارقة والعرب والآسيويين، وكل بلدان العالم الثالث، ليست الشذوذ الجنسي، وإنما التطور والتنمية ومحاربة الفقر والجوع والأمية..أما الشذوذ الجنسي الإباحي فهو مشكلة المجتمعات الرأسمالية الغنية، المليئة بالثروات إلى حد الترف والبطر..

على أي حال، وفيما يخص هذا الصراع الجاري حالياً، وعلى أوسع نطاق، بين العولمة الرأسمالية المتوحشة/‏‏ والقوى الأصولية المتطرفة، ينبغي أن نعود إلى فلسفة التنوير التي أسست الحضارة والحداثة، ينبغي أن نحتكم إلى صوت العقل والمنطق. يقول جان كلود غيبو بما معناه: «إن مشروع التنوير هو أعظم مكتسب حققته البشرية حتى الآن. فالحداثة الغربية هي التي وصلت بالإنسان، ولأول مرة في التاريخ، إلى مرحلة الفرد الحر والمستقل بذاته. لم تعد هناك أي قوة ظلامية، أو لاهوتية، أو استبدادية، تستطيع أن تكفره وتبيح دمه. فدولة القانون المدنية تحميه. وبالتالي فالحضارة الغربية لها ميزات، وليست كلها سلبيات. وليس هدفنا هنا الشطب عليها، كما يفعل الأصوليون. ثم حررت الحداثة الإنسان من الفقر والجوع. فحتى العامل أو الفلاح في الغرب يعيش حالياً بشكل أفضل من الملك أو الوزير في القرن السادس عشر أو السابع عشر! لقد تضاعفت قدرته الشرائية بنسبة خمس مرات خلال قرن واحد فقط. ونقصت في الوقت ذاته ساعات العمل والجهد، وزادت ساعات الراحة والتسلية والترفيه عن النفس. أما المواد الاستهلاكية فقد تزايدت إلى درجة أن الداخل إلى أسواق الغرب، أو المار في شوارعه، يصاب بالدوخان إذا كان قادماً من بلدان العالم الثالث للتو (مع استثناء بلدان الخليج الغنية).

ولا يوجد إنسان غربي واحد يخشى على نفسه أو وظيفته، إذا ما أعطى رأيه في السياسة، أو الدين، أو شؤون الحياة بشكل عام. فلا توجد عقوبة على الرأي، بشرط ألا تدعو إلى الطائفية والعنصرية صراحة. وأنت حر في أن تفعل بحياتك ما تشاء، شرط ألا تؤذي الآخرين.. بل وأنت حر في أن تتدين أو لا تتدين على الإطلاق. ولكن بشرط أن تكون مستقيماً في سلوكك، حريصاً على المصلحة العامة، ومفيداً للمجتمع، وتؤدي واجبك على أفضل وجه، كطبيب أو كناس شوارع أو سائق تاكسي أو حتى رئيس جمهورية!. كل ما عدا ذلك مسألة شخصية بينك وبين ربك..يضاف إلى ذلك دولة القانون التي تعامل الجميع على قدم المساواة، لا فرق بين مسيحي أو غير مسيحي، كاثوليكي أو بروتستانتي. فالحداثة التنويرية قضت على الطائفية في أوروبا قضاء مبرماً. وبالتالي فعندما نتحدث عن أزمة الحضارة الغربية ونواقصها، فإن هذا لا يعني أن هذه الحضارة على وشك الانهيار، أو أن كل شيء خاطئ ومنحرف في الغرب، كما قد يفهم القارئ من مقدمة هذا المقال. لا، أبداً. كل ما نريد قوله إنه يمكن لهذه الحضارة أن تكون أفضل. ثم نريد أن نقول بشكل خاص إن كل فكر ينتصر ويتكرس، يتحول بالضرورة إلى شيء امتثالي، معياري، وحتى قسري. وبهذا المعنى فإن الحداثة تكلَّست وتحجرت وتحولت إلى عكسها في بعض الأحيان.

بعد انتصار الغرب على الشرق أو الرأسمالية على الشيوعية، راح الكثيرون في الغرب يتبجحون بحضارتهم، إلى درجة أنهم نسوا نواقصها، بل ونسوا الشيء الأساس الذي يميز فكر الحداثة عن كل ما سبقه: أي الروح النقدية، أو بالأحرى الحرية الفكرية. ويرى الباحث الفرنسي أنه إذا كان الغرب يعاني أزمة حالياً، فلأنه لم يعد يطبّق النزعة النقدية على ذاته. حيث أصبح يعتبر نفسه فوق الخطأ، وفوق النقد. وهذا خلل. فالنزعة النقدية الحرة هي التي تشكل جوهره، بل وهي التي أدت إلى تفوقه على كل النطاقات الحضارية الأخرى: كالنطاق البوذي أو الكونفوشيوسي أو العربي الإسلامي… إلخ.

على أي حال، لولا الحرية الفكرية أو النقدية لما كان الغرب، ولما كانت الحداثة، ولما كانت الحضارة أصلاً. ولولا مقاومة الأصولية التكفيرية و«الإخوان المسيحيين»، لما سادت أفكار التسامح والتعايش والتقدم في مجتمعات الغرب المتطورة. وهذا ما ينصّ عليه مؤسس العقلانية التنويرية في الغرب: ايمانويل كانط. فهو يقول بما معناه: «إن قرننا، أي القرن الثامن عشر، هو القرن الحقيقي للنقد الذي ينبغي أن يخضع له كل شيء، بما فيه العقائد الدينية المسيحية الأكثر قداسة بالنسبة للشعوب الأوروبية». ولكننا نلاحظ أن الحداثة، بعد مائتي سنة على تأسيسها، قد خانت كانط، ولم تعد تضع نفسها على محك الشك والنقد أو الغربلة والمراجعة. لقد تحولت إلى يقينيات مطلقة، بعد أن كانت تساؤلاً مفتوحاً على المطلق: مطلق التجربة والبحث والحرية. والدليل على ذلك أنها تريد أن تفرض الشذوذ الجنسي على كل البشر! وهذه حماقة ما بعدها حماقة. ينبغي أن يفهم الغرب أنه ليس كل عاداته وممارساته صحيحة أو مقبولة. ينبغي أن يراجع نفسه..فهو ليس معصوماً!.

إلى متى سيظل العالم مختلاً إلى مثل هذا الحد: الغنى الفاحش في جهة‏‏ والفقر المدقع في جهة أخرى؟ وهنا يكمن نقص العولمة الكبير. وإذا كان الغرب حضارياً فعلاً، فلماذا يسكت على موت الملايين جوعاً في أفريقيا وبلدان الجنوب؟ نقول ذلك ونحن نعلم أن فلاسفة التنوير الأوائل كانوا يعتقدون بأنه يحق لجميع البشر، وليس فقط لسكان أوروبا وأميركا الشمالية، أن يستمتعوا بالحداثة والحضارة، وثمار التقدم والرقي. وقد كتب كوندورسيه مرة يقول عام 1780: كما أن الحقيقة هي واحدة بالنسبة للجميع، فإنه يحق للبشر كلهم أن يعيشوا في ظل نظام يحكمه العقل، والقانون، وحقوق الإنسان، والحق في الملكية الفردية، والتوصل إلى التعليم والمعالجات الطبية إلخ..ولكننا نلاحظ أن شعوب الغرب هي وحدها التي تتمتع بالغنى والرفاهية والثروات الهائلة، في حين أن بلدان الجنوب عموماً تتخبط في الفقر المدقع والحروب الأهلية والمجاعات.. ولهذا السبب نقول إن أخطر شيء ينقص هذه الحضارة هو النزعة الإنسانية والأخلاقية التضامنية.

الإمارات نموذج للوسطية

لا ينبغي وضع كل البلدان العربية أو الإسلامية في خانة واحدة. فهذا ظلم. لأن هناك بلداناً تحترم حرية الفكر والتسامح والانفتاح المعقول. إنها تنتهج خط الإسلام الوسطي والعقلاني المستنير، كالإمارات ومصر والأردن وتونس والمغرب.. لكنْ هناك بلدان أخرى تدعم جماعات الإخوان المسلمين ومختلف حركات الإسلام السياسي، وتشّجع على التطرف، وتسبب مشكلة كبيرة في الوقت الحاضر، بل وتشوّه سمعتنا في شتى أنحاء العالم.

 الحل في التنوير

في ما يتعلق بالصراع الجاري بين العولمة الرأسمالية المتوحشة والقوى الأصولية المتطرفة ينبغي أن نعود إلى فلسفة التنوير التي أسست الحضارة والحداثة، ينبغي أن نحتكم إلى صوت العقل والمنطق.

لم أعد خائفاً

 ربما كان أول كتاب أدخل غيبو إلى عالم الشهرة هو: «خيانة التنوير» الصادر عام 1995. وقد نال عليه جائزة جان جاك روسو. ثمّ تلته كتب أخرى متلاحقة «كالتباس القيم»، و«إعادة تأسيس العالم من جديد» على قيم أخلاقية، و«نقد الطغيان الذي تمارسه الشهوة الإباحية» على الحضارة الغربية، و«بداية عالم جديد». و«نحو حداثة خليطة أو مزيجة» تشترك في صنعها شعوب الأرض كافة، ومن ثم: «هل لا يزال الإنسان إنساناً حقاً؟» في العصر الإلحادي المادي المغرق في شهوانيته ورأسماليته؟ وبالأخص كتابه الأخير عن سيرته الذاتية، والمفعم بالأمل والتفاؤل: «لم أعد خائفاً».

_________

*الاتحاد الثقافي

شاهد أيضاً

العولمة بين الهيمنة والفشل

(ثقافات) العولمة بين الهيمنة والفشل قراءة في كتاب “ايديولوجية العولمة، دراسة في آليات السيطرة الرأسمالية” لصاجبه …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *