*سليم البيك
أي فيلم جديد للمخرج الفرنسي بيرتراند بونيلو سيجلب معه، قبل مشاهدته، احتمالات لا أن يحوي مَشاهد جداليّة، بل أن يكون الموضوع كلّه جداليا، إضافة إلى الكيفية التي طُرح بها الموضوع، إلى درجة قد يجدها البعض استفزازية وقد يجدها الآخر تحريضيّة جاذبة كأسلوب سينمائي.
لكن موضوعه هذه المرّة ابتعد عن الجنس تماماً، بخلاف أفلام سابقة له كـ»The Pornographer» و»House of Tolerance» وقد تناول الفيلمان الدّعارة، كلٌّ من ناحيته، بل تناول موضوعاً هو الأكثر جدالية في فرنسا هذه الأيام، وهو الإرهاب.
يبدأ الفيلم بلقطة جوّية لمركز مدينة باريس صباحاً، تماماً كالصّور السياحيّة لها، والمدينة ليست ذاتها من السّماء كما هي من الأرض، ففي الوقت ذاته، صباحاً، تبدأ مجموعة من الشباب، من أصول عرقية متنوّعة، بالتّحضير لعمليّة إرهابيّة. والنقطة الأولى التي قد تثير رفضاً لدى بعض الجمهور الفرنسي (اليميني) هنا هو تصوير عمل إرهابي من دون أي ربط له بالإسلام أو بإسلاميين، أو حتى بعرب دون غيرهم، بخلاف ما يروّج له الإعلام في فرنسا. أمّا النقطة الثانية فستكون طريقة تعامل القوّات الخاصة من الشرطة مع الموضوع في نهاية الفيلم.
يبدأ الفيلم بلقطة تمتد لنصف ساعة يكاد لا يتخلّلها غير كلمات قليلة، نشاهد فيها شبابا يتنقّلون في الشوارع وبين محطات المترو، يتجاورون من دون أن نعرف علاقات بعضهم ببعض، أو ما يحضّرون له، يتواعدون في أكثر من مكان، لا نشاهد غير حركاتهم المتسارعة، كأنّهم يتأخّرون عن أمر مهم، بعضهم يلتقي، من دون أن نعرف أي خلفية للقاءاتهم، بعض اللقطات التي تبدو غريبة ولافتة تبدأ بالظّهور، كأن تحجز فتاة بملابس عادية غرفة في فندق غال في مركز المدينة، ثم نراها تغسل تمثالاً في الساحة، يمرّ الوقت في الفيلم وفي نهار الشّباب المتسارعين إلى ما سيفعلونه ويبدأ الكلام بالظّهور في حوارات قصيرة ومختصرة، ويزول الغموض. برويّة سنفهم أنّهم جميعاً يعرفون بعضهم بعضاً بخلاف ما بانوا عليه في النصف الساعة الأول، وأنّهم يحضّرون لعمليّات تفجير في المدينة وأنّ المسألة أخطر مما أمكن توقّعه.
بعد التفجيرات يتوجّه الجميع إلى مركز تجاري حيث يعمل شريك لهم كموظّف أمن، اختبأوا في المركز الذي تم تفريغه من زوّاره بسبب الانفجارات، وأمضوا الليلة هناك. شباب بعضهم من فئات اجتماعيّة فقيرة وآخرون من فئات غنية ولها علاقات بالسلطة، من أعراق متعددة، خططوا ونفذوا تفجيرات روّعت المدينة، كان أحدها في مبنى وزاري وآخر في برج عالٍ، شباب عاديون ليس هنالك أي تلميح لأي تطرف اجتماعي أو ديني لأحدهم، وهم كذلك ليسوا محترفين كما بدا، إنّما لخلل في الإجراءات الأمنية في أماكن التفجير تمكّنوا مما فعلوه. هؤلاء الشباب نجدهم في مكان واحد، أمضوا ليلة يرتدون ما يريدونه، يأكلون ما يريدونه، يستهلكون ما يستطيعونه ريثما تنتهي الليلة ويخرجون من مخبئهم.
كي لا نربط الفيلم بشكل مباشر بالأحداث التي شهدتها فرنسا خلال السنتين الأخيرتين، نذكر بأن سيناريو الفيلم كان قد كُتب قبل أحداث «شارلي إيبدو»، وكان في طور التّصوير أثناء أحداث نوفمبر/تشرين الثاني الأخيرة في فرنسا، فلا يأتي الفيلم استجابة آنيّة لأحداث إرهابية، بل طرحاً أكثر عمقاً لحال المجتمع في فرنسا، موسّعاً زاوية الطّرح ومنزاحاً عن تناول الإعلام للمسألة كعمل حصري بالإسلام.
وكذلك، ما يميّز الفيلم أكثر مما هو تناول أعمق للإرهاب مما يتيحه الإعلام، هو طرحه ضمن أسلوب فنّي في السّرد، سرد المَشاهد وإعادة بعضها ضمن سياقات مختلفة وزوايا تصوير ووجهات نظر مختلفة، تمرير صوت هنا أو حادثة هناك بشكل ثانوي ثمّ إرجاع المَشاهد إليها كتفصيل أساسي يستكمله المشهد وينتقل منه إلى غيره.
لم يكن الفيلم الذي يتناول عمليّة إرهابيّة فيلماً تجارياً كما يمكن أن يرجّح موضوعُه، بل كان فيلماً فنّياً وهو الأقرب لما يمكن أن يطرحه مخرجُه بونيلو.
في المركز التجاري، حيث صالات عرض الملابس والمجوهرات والعطور وكل ما غلا ثمنه، كل ما يمكن أن يرمز، بالعلامات التجارية، للماديّة والاستهلاكيّة الذي يعيشه عالمنا وتحديداً منه عواصمه الكبيرة كباريس، هناك انجذب الشباب إلى ما كان يتوهّج أمام أعينهم، فارتدوا مما رأوه وأكلوا وشغّلوا الموسيقى بصوت عالٍ واستحم بعضهم ونام، إلى أن ثبّتت التلفزيونات كاميراتها على المركز التجاري، وبدأت الأخبار تحكي عن اقتحامات له، فتدخل القوات الخاصّة وتقتل الجميع بإعدامات ميدانية، من دون مقاومة ومن دون تهديد من أحد، قُتل بعضهم وهو واقف رافع يديه، وأخرى وهي تهرب، وحبيبان وهما مختبئان، واحد فقط قُتل وهو يطلق النار من مسدّسه، كان الأخير وتوقّف عن الإطلاق وهو يصرخ للشرطة بأن أنقذوني، فقتلوه.