صورة أخي

*مريم حيدري

كانت الحرب قد ولدت قبلي، ومثل طاعون وعدوى كانت تلحق عائلتي كما العوائل الأخرى التي كانت تسكن في المدن الواقعة بالقرب من الحدود الإيرانية العراقية. وعائلتي تهرب منها من مدينة إلى أخرى، وبين هذه المدن المؤقتة ولدت أنا، وكان قد مرّ على الحرب أربع سنوات.

في العام ذاته (1984) كان أخي الأكبر (16 عاما) يذهب للقتال دون علم العائلة قائلا لهم إنه يذهب إلى مدينة أخرى من أجل الدراسة، يمرّ بين حين وآخر بالبيت لزيارة الأهل وخلال هذه الزيارات كانت ولادتي، فسمّاني «مريم» وغادر ثانية.

وفي العام ذاته أيضا ذهب ولم يعد، ثم عرف الأهل أنه كان يذهب إلى جبهات القتال محاربا. في البحث عنه لم يصلوا إلى خبر سوى أن قريبا منا كان قد رآه في الخطوط الأمامية من القتال، ثم لا خبر أو عنوان منه إلى زمن طويل. انتهت الحرب عام 1988، وكان أخي مازال «مفقود الأثر»، لا تعرف عائلتي إن كان قد استشهد أم مازال حيا وقد أسر. في عام 1990 بدأت عملية تبادل الأسرى بين البلدين. كان يعود من العراق إلى إيران العشرات من المحاربين السابقين وقد تم الإفراج عنهم. بابتسامات كبيرة ملؤها الشوق والفرح، يلوّحون لأهلهم من بين شبابيك الحافلات.

وقبل دخول كل قافلة منهم، كانوا يكتبون أسماءهم آنذاك في جريدة ما. تنشر الجريدة وتوزع في أنحاء البلاد ليعرف أهالي الأسرى ويأتون لاستقبالهم. وأمي التي من عادتها أن تذهب إلى السوق صباح كل يوم، كانت تخرج تلك الأيام وتعود إلى البيت مالئة سلتها بالخضار والفواكه وألعاب لنا، وواضعة فوق كل ذلك «جريدة». ثم تبدأ وتستمر طوال النهار عملية البحث عن اسم أخي بين القوائم الطويلة لأسماء الأسرى المفرج عنهم أو كما كان يطلق عليهم «آزادكان» بالفارسية أي «الأحرار».

وكل مرة لم تنجح العملية ولم يتم العثور على اسم أخي بينهم. أمي كانت تنتظر، وكنت أنتظر معها دون أن يكون لي شعور كبير نحو أخي. كنت أتمنى أن يعود من أجل أمي فقط. من أجل أن تفرح أمي وتستطيع أن ترتدي ثيابا ملونة، هي التي لم تلبس منذ غياب أخي سوى الأسود.

كانت أمي تحتفظ بصورة لأخي في الخزانة واضعة إياها بين قماش أخضر ناصع، وفي كثير من الأحيان حين تجد البيت فارغا من أفراد العائلة، تجلس على الأرض مقابل الخزانة المفتوحة كما المحراب، تخرج الصورة، تزيل عنها الحجاب الأخضر الجميل، وتأخذ بالبكاء.

كنت أتبع أمّي حينها، أجلس إلى جنبها. أشهد على تلك اللحظة الخرافية لإزالة الأخضر وإشراق وجه أخي من خلفها، مراقبة وجه أمي، وما أن تبدأ هي بالبكاء، حتى تسقط دموعي وأبكي معها بصوت عال. باكية كانت تتحدث معه، ترجوه، تعاتبه، تدعو له وأنا أسند رأسي إلى كتفها، أبكي من أجل بكائها، وأتمنى من كل قلبي أن ينتهي حزن أمي وكآبتها.

بعد ساعة من البكاء تقبلني أمي، تعيد الصورة إلى بيتها، وأعود ثانية إلى طفولتي المفعمة باللعب والدلال. ألعب طوال النهار في البيت والشوارع، إلى حين الموعد المقبل مع أمي والصورة.

 14729097119

هكذا مرت السنوات، ولا خبر من أخي لا في الجرائد ولا عن أفواه الآخرين من أصدقائه الذين عثروا عليهم أهلي في ما بعد.

ثم ذات يوم كنت عائدة لتوي من المدرسة، وجدت في بيتنا ضيوفا لا أعرفهم، جالسين في غرفة الضيافة. كنت في باحة البيت حين خرجتْ أمي من الغرفة باكية بصوت عال وصارخة: «يمّا». كان عام 1995. وفي ذلك العام، ذلك اليوم الدافئ، وفي تلك اللحظة، شعرت أن شيئا ما قد انهار. انهار دون أن يسقط على الأرض؛ حجمه الثقيل وقع على بيتنا، على أيامنا التي تلت تلك اللحظة وعلى أرواحنا جميعا.

كان الضيوف قد قالوا لأمي وأبي إنه أثناء البحث عن جثامين الشهداء في المناطق الحربية، وجدوا عظاما تدل السلسلة التي كانت بالقرب منها أن تلك العظام هي لأخي. خفت من حديث العظام وقد كنت أخاف حينها حتى عند النظر إلى الهيكل العظمي في المدرسة. خفت أن أسأل أيّ شيء، وفي الأيام اللاحقة كنت أرى أمي تشيب بسرعة غريبة، يغيب البريق من عينيها، ووجهها الأبيض والأحمر يشحب سريعا يوما بعد يوم.

تلك الصورة وضعت بعد سنوات على الجدار وانتقلت طقوس أمي من محراب الخزانة إلى محراب آخر: القبر. رغم أن أمي كانت تحلم أحيانا بهاتف ما، يقول لها في الحلم إنه ليس أخي! وتحير أمي لفترة بين أن تنتظر ثانية خبرا عنه أم أنها هي بالفعل عظام أخي التي دفنت تحت التراب؟ مصدقة الحلم وغير مصدقة، تعود أمي إلى زيارة قبره، وفي بعض الأحيان كنت أذهب معها مصرّة ورغم امتناعها إلى المقبرة. أحزن معها وأبكي، ثم لدقائق أتناول طفولتي التي كانت تحب الحركة كثيرا وأذهب بها إلى فوق تلّ على جانب المقبرة، أظن أني تسلقت جبلا، أشعر بسعادة صغيرة إلى أن تناديني أمي ونعود إلى البيت.

تاريخ العائلة والمدينة والبلد كان مرتبطا بالحرب منذ ولدت وقبل أن أولد. بالقصف والهروب المستعجل من الخراب، ومرتبط بالدموع. وكانت طفولتي وسعاداتها البسيطة في صراع كبير ومستمر مع الحزن وأحاديث الحرب والفقدان والبكاء. ألذلك مازلت أبكي سريعا؟ ألذلك أصبح الأخضر لوني المفضل، والصور، أحبها ولا أحبها؟!

————————-
*العرب

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *