*صلاح سالم
ثمة مستويان أساسيان في النقد التنويري للدين كسردية روحية هي الأكثر جوهرية في التاريخ الإنساني، وكظاهرة ثقافية هي الأكبر في الاجتماع البشري. على المستوى الأول، الذي نتوقف عنده اليوم، يبرز النقد النظري/ المعرفي، حيث كان التشكيك الجذري في الحقيقة الإلهية نفسها، والبحث في أصول فكرة الدين ذاتها، عبر أسئلة كثيرة تم طرحها: فهل ثمة توحيد أولاني، أي إيمان بإله واحد خالق انطلقت منه شتى الاعتقادات التالية، وضمنها الوثنية، قبل العودة من جديد إلى الدين التوحيدي ممثلاً في التقليد الإبراهيمي. أم أن أصل الدين يكمن في (أشكال أولية للحياة الدينية) حاول علماء الاجتماع الديني والأنثروبولوجيا الكبار، وعلى رأسهم ماكس فيبر وإميل دوركهايم تفسيرها، زاعمين أنها تتجذر في دوافع كالخوف الناجم عن عجز البشر البدائيين أمام قوى الطبيعة، فرأوا في ظواهرها الكبرى ما يستحق العبادة أملاً في استمالتها. أو الجهل الذي أعاق محاولات هؤلاء البدائيين لإدراك طبيعة النفس البشرية، خصوصاً على صعيدي الأحلام والرؤى. أو الاغتراب، الذي يدفع كل جماعة بشرية للسعي إلى إدراك الأواصر التي تربط أعضاءها معاً، وتميزها كجماعة عن الجماعات الأخرى. وبالتالي كان الدين إما فيزياء بدائية (الطبيعية) أو علم نفس بدائياً (الأرواحية) أو علم اجتماع بدائياً (الطوطمية).
وفي هذا السياق نُظر إلى الألوهية، باعتبارها غير علمية، فإما أنها تجافي العقل، ما كان إيذاناً بزوالها في عصر العلم، بحسب ما ذهب إليه التنوير المادي. وإما أنها فوق طاقة العقل، كونها فكرة ميتافيزيقية تستعصي على الإثبات التجريبي، كما تستعصي على النفي، بحسب ما ذهب التنوير الروحي في صيغته الكانطية بوجه أخص. لقد وجَّه النقد التنويري سهامه إلى مجمل الأفكار الدينية، ومناهج المعرفة التقليدية، وضمنها المنطق الأرسطي الذي حكم تاريخ المعرفة لما يقرب من الألفي عام، بل وإلى الفلسفات المثالية التي حاولت تقديم تصور شامل لـ (الحقيقة)، على مستوى الأنساق الكبرى: الطبيعة والتاريخ والمجتمع والإنسان. ولأن العلوم الطبيعية أولاً، والعلوم الاجتماعية ثانياً، سعت إلى تحقيق استقلاليتها وضمان مشروعيتها في التعبير عن الحقيقة، على حساب التأويلات الدينية/ الميتافيزيقية لهذه الأنساق الكبرى، فقد أخذت هذه العلوم في تضخيم مزاعمها بالصدق والتفوق على مجمل الأفكار السابقة، ليس فقط الكامنة في العقائد الدينية، بل وأيضاً في الفلسفات الميتافيزيقية، والأفكار الأسطورية، وجميعها ينضوي تحت نسق المعرفة التي نشرع من الآن في وصفها إجمالاً بـ (التقليدية)، أي السابقة على المعرفة الحديثة، وليدة العلم التجريبي الحديث المنضبط منهجياً، والصارم تقنياً، المعني أساساً بفهم الطبيعة مباشرة بعيداً من سحر الألوهية، وسطوة الميتافيزيقيا وجاذبية الأسطورة. وهنا ولدت كل النبوءات الحداثية حول مستقبل الدين، الذي دخل بحسب هذا الفهم، في مباراة صفرية مع العلم. فمع كل تقدم لهذا الأخير، كان مفترضاً أن ينسحب الأول.
ومع كل اختراق كبير للعلم كان المفترض اعتراف الدين بهزيمته. وهكذا كان لا بد من أن يختفي الدين تماماً أو يدخل طور الأفول، مع اكتمال التطور العلمي، وتأسيس سلطته الجديدة على الحقيقة، وهو الأمر الذي اعتبره البعض انتصاراً نهائياً للإنسان الحديث الذي صار رفضه للدين وسلطانه القديم، هو معيار حداثته الفكرية، ونضوجه العقلي، وهي رؤية خاطئة في تقدير دور الدين، ينبع قصورها من نزعتها الاختزالية على مستويات ثلاثة أساسية. على المستوى الأول؛ ثمة اختزال تاريخي/ رأسي لدور الدين في ترقية الرؤية الإنسانية للكون؛ ذلك أن التقليد الديني، وما اشتمل عليه من رؤى معرفية وخيال ثقافي تجاه الطبيعة، والتاريخ والمجتمع والإنسان، كان أكثر تطوراً بكثير مما سبقه من تقاليد أسطورية، خرافية أو سحرية، كانت بالغة السذاجة في تصور الحقيقة. فمثلاً كان التقليد السحري يرجع كل ظواهر الطبيعة إلى أعمال سحرية خرافية، يمكن للساحر (الشامان) القيام بها والتحكم من خلالها في حركة العالم بل وفي أقدار البشر، ما كان يدفعهم إلى استرضائه، إيمانا بقدراته. كما كان التقليدي الأسطوري يرجع حركة الطبيعة كلية إلى خرافات محض، حيث العراك بين الأبطال والجبابرة مما لا طاقة للإنسان بهم هو ما أنتج الكون على هذا النحو، أو جعل الطبيعة تأخذ ذلك الشكل، وهو فهم رغائبي/ ذرائعي للكون وليس فهماً عقلياً له. كما أن الدين الأرواحي (الذي رأى في الطبيعة كائناً حياً)، جعل لكل ظاهرة طبيعية إلهاً خاصاً، يمكن مخاطبته واسترضاؤه، عبر أفعال وطقوس بذاتها، تسعى إلى توظيفها لمصلحة الإنسان.
والمؤكد أن النظرة الدينية التوحيدية، من خلال تصورها عن كون مخلوق لله، وعن طبيعة مسخَّرة للإنسان كخليفة لله، وعن إرادة إله أعلى واحد يتحكم بحركة الكون ضامناً لانتظام سيره، وبحركة الطبيعة ضامناً لثبات وانتظام قوانينها الداخلية، كانت أكثر تقدماً بكثير عن تلك الرؤى الأسطورية والسحرية والأرواحية القديمة، التي قامت على الفوضى واللانظام بالكلية، وعلى حس رغبوي عاطفي في الحقيقة. لقد تأسست الرؤية التوحيدية للكون على النظام والكلية والتناغم، حتى وإن كان مصدرها جميعاً هو الإرادة الإلهية العليا، وسلطتها الفائقة على الوجود كله، ومن ثم يمكن اعتبار الدين وما صاغه من تقليد معرفي، إن بإلهام نصوصه، أو بما أشاعه من معتقدات توحيدية/ كلية عن الكون والطبيعة، محطة أساسية على طريق العقلنة الحديثة، وخطوة بارزة على طريق المنهج العلمي التجريبي عندما أزال السحر القديم من قلب ظواهر الطبيعة نفسها، مؤكداً تجانسها الكلي ولو مع إرادة خالق أسمى، وانتظامها المطلق، وقوانينها الصارمة، وهي العناصر التي كان ممكناً، وربما سهلاً، تطويرها إلى رؤية حديثة وتجريبية، قياساً إلى الفوضى والتشظي الهائل في الرؤي السحرية والأسطورية السابقة عليها. وعلى المستوى الثاني ثمة اختزال أفقي/ معاصر لدور الدين في الحياة، وكأنه مجرد نسق وضعي وظيفته تقديم قراءة معرفية للواقع الطبيعي أو الإنساني.
ففي هذا السياق يتبدى الدين كشكل بدائي للعلم، عجز تدريجياً عن أن يمنح للإنسان صورة موضوعية عن الحقيقة، ومن ثم تعين عليه الانسحاب أمام أشكال العلم الأكثر حداثة، حيث الصرامة المنهجية والروح الشكيَّة هي الأقدر على إعطاء الصورة الأكثر موضوعية عما يُفترَض أنه الحقيقة، وهنا يصبح مفهوم الألوهية أقرب إلى نظرية فيزيائية بدائية، ومفهوم النبوة مجرد نظرية نفسية متقادمة، ومفهوم الوحي تصور خرافي متهالك أمام النظريات الفلكية الحديثة، وهكذا فما أن يتقدم العلم، ويستنير العقل الإنساني، حتى تسقط تلك المفاهيم: الله، النبوة، الوحي، لأنها ليست سوى أكثر من شموع بالية انتهت صلاحيتها مع سطوع الكهرباء الساحق في ليل الإنسان الداجي. والمؤكد أن هذا أمر غير صحيح، لأن الدين في جوهره رؤية كلية للوجود لا رؤية خاصة للمعرفة. إنه موقف من الحقيقة نعم ولكن بمعناها الشامل وليس فقط العلمي/ التجريبي. وعلى المستوى الثالث ثمة اختزال جغرافي/ حضاري للدين في التجربة المسيحية الأوروبية التي سادت العصر الوسيط، باعتبارها الأكثر تمثيلاً لادعاءات الدين في ترسيم معالم الحقيقة كلية، بما فيها المكون العلمي. حيث أنتج الكتاب المقدس بذاته، أو بحسب تأويلاته المتوالية في عهديه القديم، والجديد، رؤية معرفية للكون تتسم بآفات التحديد الدقيق، والطابع المغلق، ومن ثم كان طبيعياً أن تصطدم بالنظريات العلمية الحديثة، المنفتحة على الجديد، والقائمة على النسبية، خصوصاً نظريات: مركزية الأرض، والتطور، وعمر الكون، والطوفان، وغيرها، ما أنتج ذلك الصراع الحدّي بين منطق العلم الجديد، الدقيق والصارم والموضوعي، وبين رؤية الكتاب المقدس، التي تفتقد للإحكام المنهجي ناهيك عن الصدق التاريخي. ويكفي هنا أن نتبين طرفي المعركة غير المتكافئة عندما نضع إنجازات العلم الحديث التي قامت على عناق بين الرياضيات والفيزياء في صوغ رؤيتنا الحديثة، الأكثر انضباطاً، عن الكون، في مواجهة مقولات العلم الاستنباطي/ التقليدي السابقة على العلم الحديث، والتي قامت على عناق بين منطق أرسطو الصوري، ورؤية الكتاب المقدس العلمية، واللذين شكَّلا معاً السلطة المعرفية للقرون الوسطى التي بلغت أوج رسوخها في النزعة الفلسفية المدرسية/ الأسكولائية مع توما الأكويني في القرن الثالث عشر، وهي السلطة التي نازعت تالياً بدايات الثورة العلمية نهاية القرن السادس عشر، ومطالع القرن السابع عشر، كما نازعت بقاياها طويلاً اختراقات العلم التجريبي الكبرى في القرن التاسع عشر.
كان ذلك الصراع طبيعياً، وإشكالياً في الوقت نفسه، في السياق المسيحي – الأوروبي، ولكن لا يمكن أبداً تعميمه على الفضاء الإنساني كله، فلم يجر ما يشبهه، مثلاً، في نطاق الدين الطبيعي/ الآسيوي، على رغم ما قدَّمته الديانات الهندية، خصوصاً الفيدية والبرهمية، مثلاً، من تصورات للزمان تعتمد مفهوم الدورة الكونية ذات العمر المحدد. وذلك لأن عمر تلك الدورات كان طويلاً، يعد بملايين السنين بما يجعلها أقل صداماً مع الرؤية العلمية. كما أنها لم تدخل في عراك مباشر مع تلك الرؤية العلمية، إذ لم تكن ثمة بنية كهنوتية أو سلطة بطريركية ترعى تلك الرؤية العلمية وتسعى إلى فرضها كحقائق خالدة وأبدية، على منوال الكنيسة الكاثوليكية في سعيها للهيمنة على الحقيقة، تبريراً لاحتكار السلطة، ومن ثم وجدت في تقدم العلم انتكاساً للهيمنة، وزوالاً للسلطة. ولعل المثال الأكثر دلالة، يأتي من داخل الإسلام، الذي خلا تقريباً من الادعاءات العلمية الصارمة حول الطبيعة والكون والإنسان، وإن كان النص القرآني المؤسس أشار دوماً إلى آيات كونية، اعتُبرت محض تخيلات عامة، وتدليلات كلية على الحقيقة الإلهية، ولكن من دون تحديد تاريخي دقيق يقيدها، ولا صياغة منهجية صارمة تضفي عليها انغلاقاً ذاتياً، وتضعها في دائرة الصراع مع أي حقيقة علمية يمكن اكتشافها عبر حركة التاريخ وتقدم العقل الإنساني.
________
*الحياة