يعترف موديانو بأنه سرق كتبًا وبعض أطقم دوفيلز الأنيقة، وعلبة موسيقية وباعها لتاجر خردة في كليشي، كما قامت أمه ببعض السرقات.
لم تكن شهرة الروائي الفرنسي باتريك موديانو واسعة النطاق خارج حدود بلده قبل أن يفوز بجائزة نوبل للآداب عام 2014، على الرغم من تتويجه بجوائز مهمة ومعروفة عدة، مثل «غونكور»، و«الجائزة الكبرى للأكاديمية الفرنسية للرواية»، وجائزة «مارغريت دوراس»، وغيرها من الجوائز التي تشيد بأعماله الروائية التي اتخذت من باريس فضاءً لها خلال حقبة الاحتلال النازي لفرنسا.
بعد فوز موديانو بجائزة نوبل ترجمت رواياته إلى أكثر من ثلاثين لغة عالمية، كما أقدم مشروع «كلمة» على ترجمة ست روايات، من بينها «سلالة» التي ترجمتها الشاعرة اللبنانية دانيال صالح وذيّلتها بعبارة «رواية في السيرة الذاتية» لتضع القارئ في إشكال تجنيسي يتوزع بين الرواية من جهة والسيرة الذاتية من جهة أخرى. وسيتضاعف هذا الإشكال حين يقتبس المُراجع الأكاديمي كاظم جهاد في تقديمه للكتاب مُقتطَفًا من حوار سابق لموديانو يقول فيه: «لا تنفع السيرة الذاتية في الأدب ما لم تقُم المخيّلة بتهويتها». غير أن هذه التهوية لم تمسّ، في الحقيقة، جوهر السيرة الذاتية ومصداقيتها، الأمر الذي أنقذها من التصحيف والتحريف والكذب.
لا بد من في الوضع الحسبان أن هذه السيرة الذاتية تغطي زمنيًا طفولة باتريك وصباه وشبابه حتى سن الحادية والعشرين، وهو العام الذي بدأ فيه بكتابة روايته الأولى «ساحة النجمة» التي ستُتوج بجائزتي روجيه نيميه وفينيون. وفي عام الكتابة الأدبية التي يعتبرها امتدادًا طبيعيًا لسيرته الذاتية والإبداعية توقف عن كتابة أي سيرة ذاتية لاحقة؛ لأنها موجودة بشكل من الأشكال في رواياته التي بلغت الثلاثين حتى الآن.
أسهب موديانو في الحديث عن والديه اللذين يُشكِّلان لُحمة النص وسَداته، فوالده ألبير موديانو من مواليد باريس 1912، إيطالي الأصل ومنحدر من عائلة يهودية. وأمه لويزا كولبين، بلجيكية فلامنكية مولودة عام 1918، تمارس التمثيل المسرحي والسينمائي. وقد التقيا في باريس في ظل الاحتلال الألماني، وأنجبا طفلين، هما باتريك ورودي، الذي سيموت في سن العاشرة نتيجة إصابته باللّوكيميا ويترك أثرًا كبيرًا في حياة شقيقه الأكبر الذي سيُهدي إليه رواياته الثماني الأولى. يمكن اعتبار هذا الشقيق الذي غاب مبكرًا علامة فارقة أو بيت القصيد في هذه السيرة. يقول موديانو: «إذا ما استثنيتُ شقيقي رودي ووفاته، أعتقد ليس ثمة بين كل ما سأنقلهُ، ما يعنيني في الصميم، أكتب هذه الصفحات كمن يحرر مَحضرًا أو سيرة شخصية بصفة توثيقية، ربّما للانتهاء من حياة لم تكن تخصني» (ص56). فالأب الذي يكتب عنه غائب على الدوام، ومنهمكٌ في السوق السوداء، وغارق في عالم سرّي، مشبوه لم يتعرّف على بعض تفاصيله حتى الآن. أما الأم فقد كانت ممثلة مسرحية كثيرة الأسفار تلهث وراء سراب الشهرة وبعض النقود التي تسدّ رمقها من خلال تجسيد بعض الأدوار في مسرحيات «عقدة فيلمون»: «إشارة كيكوتا»: «الأبواب تصطفق» وغيرها من الأعمال الدرامية، لكنها كانت تقف دائمًا على حافة الإفلاس، ولا تستطيع أن تسدد فواتير الماء والكهرباء، فكيف لها أن تساعد ابنها الذي يتنقل بين المدارس الداخلية القذرة التي لا تقيه من برد الشتاء، ولا تقدم له ما يسدّ الرمق من الطعام؟ لم تكن علاقة الأب والأم طيبة فسرعان ما انفصلا حيث تعرّف الأب على ناتالي الشقراء أول الأمر، ثم ارتبط بميلين دومنجو المزيّفة تاركًا زوجته لويزا تتنقل بين أحضان المعجبين. كانت أمه جميلة، لكنها متحجرة القلب ولم ينمّ عنها أي عطف أو حنان أو رعاية، ومع ذلك فقد كان موديانو يذهب إلى صفوف التعليم الديني ويصلي عسى أن يغفر لها الرب.
إن ما يلفت الانتباه في هذه السيرة هو كمّ الكتب المهمة التي قرأها باتريك في طفولته وشبابه منها «آخر الموهيكييّن» للأميركي جيمس فينيمور، الذي لم يفقه منه شيئا، و«كتاب الأدغال» لكيبلينغ، و«حكايات القط الجاثم» لمارسيل إيميه. كما شاهد في الثامنة من عمره فيلم «أعظم استعراض في العالم» الذي ترك أثرًا شديدًا في نفسه وستلعب السينما لاحقًا دورًا مهمًا في تعميق خبرته البصرية. ازداد رصيده من القراءات التي امتدت إلى جول فيرن، ألكسندر دوما، جوزيف بيريه، كونان دويل، دو سيغور، جاك لندن حتى وصلت إلى ألف ليلة وليلة. تعمّقت قراءاته حتى أنها طبعته بميسمها مثل «مجرد امرأة»: «مارغريت الليل» و«شارع بلا اسم». لم تكن القراءة حرّة في المدارس الداخلية، ففي عام 1962 طُرد لبضعة أيام لأنه قرا «السنابل الخضراء» لكوليت من دون إذن لكنه سيحصل على الموافقة من أستاذه أكامبريه لقراءة «دروب البحر» لمورياك التي أعجبته نهايتها، ولا يزال يتذكر جملتها الأخيرة حتى الآن، ثم سمح له بقراءة كتب أخرى مهمة مثل «المُقتلعون من جذورهم»: «مهنة العيش»: «مرتفعات ويذرينغ»: «بنات النار» و«يوميات كاهن في الريف» إضافة إلى كتب أخرى سوف تغيّر ذائقته الأدبية.
الأب يحثُّه عبر الرسائل على ألا ينسى التفاصيل، وأن يكرّس حياته للدراسة والكتابة مثل سارتر، وكلوديل ورومان غاري. أما أمه فكانت تشجعه على قراءة كتاب «الصبايا» لمونترلان، وتريده أن يصبح مُرشده في الحياة الجنسية وهو موقن تمامًا بأنها لم تقرا سطرًا واحدًا من كتاب مونترلان!
لم تطق ميلين زيارات باتريك المتباعدة ولم تقبل أن يتحول إلى طالب خارجي يتردد على منزل والده وقتما يشاء لذلك سجله أبوه في ثانوية هنري الرابع بباريس لبعض الوقت، ثم نقله إلى بوردو كي يدرس في القسم التحضيري للدراسات الأدبية في ثانوية ميشال مونتاني.
عمل موديانو في بيع الكتب لبعض الوقت، لكن إفلاس والدته المتواصل كان يضغط عليه ويضعه في مواقف محرجة جدًا. يعترف موديانو بأنه سرق كتبًا وبعض أطقم دوفيلز الأنيقة، وعلبة موسيقية وباعها لتاجر خردة في كليشي. كما قامت أمه ببعض السرقات، لكنها لم تُضبَط متلبسة بالجرم المشهود.
حاول والده للمرة الأخيرة إبعاده من باريس عن طريق تشجيعه للالتحاق بالخدمة العسكرية وأعطاه أول مصروف جيب 300 فرنك، وهي النفقة الوحيدة التي حصل عليها موديانو من والده طوال حياته؛ فراح يفكر بالأسباب الغامضة التي كانت تدفع والده لإبعاده من البيت والعاصمة برمتها.
كان موديانو قد وضع اللمسات الأخيرة على روايته الأولى «ساحة النجمة»، وفي ربيع 1967، وعَلِم بموافقة دار غاليمار على نشر روايته الأولى، وكان وراء هذه الموافقة الروائي الفرنسي ريمون كونو الذي عرف بحدس المبدع أن باتريك موديانو كاتب متميز ينتقي ثيمات حساسة تتمحور في الأعم الأغلب على الهامشيين، والمختفين، والمحرومين من الأوراق الثبوتية.
يمكن القول باطمئنان كبير إن «سلالة» هي سيرة ذاتية بامتياز، كما يذهب المُنظِّر فيليب لوجون؛ لأنها «حكي استعادي نثري يقوم به شخص واقعي عن وجوده الخاص، وذلك عندما يركز على حياته الفردية، وعلى تاريخ شخصيته، بصفة عامة». كما يعزز هذه القناعة التطابق التام بين المؤلف، والسارد، والشخصية. أما تهوية النص السردي فتكمن في المفاجآت التي أقدمَت عليها الشخصيات الثلاث الرئيسية، الأب، الأم والابن، ومنحت السيرة مصداقيتها التامة التي لا يرقى إليها الشك.
___
*الشرق الأوسط