زهور كرام
كلما حان موعد جائزة نوبل للآداب بالخصوص، إلا وتم الاهتمام باسم الفائز وبلده وجنسيته، وطبيعة موضوعات رواياته. وفي غالب الأحيان، ينزاح النقاش عن البعد الأدبي لصالح السياسي، الذي يحضر بقوة مع إعلان الفائز، خاصة في الخطابات العربية.
ولعل المسألة ذات علاقة بفقدان الثقة في المؤسسات الغربية، ومنها مؤسسات الجوائز، التي تشتغل وفق أجندات سياسية إيديولوجية، كما ترى كثير من الخطابات. لكن، جائزة نوبل للآداب لهذه السنة «2015»، تُحقق بعض الانتصار للأدب، وتضمن بقاء النقاش حول الجائزة في منطقة الكتابة الأدبية، أكثر من الذهاب إلى السياسة التي مع ذلك- تحضر بصيغة مختلفة مع اختيار هذه السنة، غير أن رسائل أدبية كثيرة تستطيع أن تجعل جائزة هذه السنة تشتغل في مجال الأدب، وتسجل ملاحظات حول دور مؤسسات الجوائز في التفكير في سؤالي الأدب ونظرية الأجناس الأدبية، ومفهومي الكتابة والتلقي.
بحصول الكاتبة البيلاروسية سفيتلانا اليكسييفيتش على جائزة نوبل للآداب لعام 2015، من خلال مسيرتها في الكتابة الإبداعية التي تعتمد في بناء النص الأدبي على الوثيقة الواقعية والاجتماعية، وعلى شهادات الناس ومشاعرهم، تكون مؤسسة جائزة نوبل للآداب قد بدأت تعترف بأشكال سردية مختلفة في معيار الترشح للجائزة.
وبالنظر إلى لائحة الحاصلين على جائزة نوبل للآداب منذ بدايتها، سنلاحظ أن الكتابة الروائية حظيت بحضور قوي في هذه اللائحة، بالقياس إلى الشعر والقصة القصيرة والمسرح، كما أن الأدب حسب لائحة الفائزين يمتثل إلى نظرية الأجناس الأدبية التقليدية (رواية، قصة قصيرة، شعرا، مسرحا)، وإلى مفهوم الأدب في معناه المتداول، الذي لا يخرج عن الأجناس الكبرى.
الفائزة بنوبل للآداب لعام 2015، البيلاروسية سفيتلانا اليكسييفيتش ليست روائية حسب معايير منطق الجنس الروائي المتعارف عليه، الذي يعتمد التخييل لغة أولى لحكي الحكاية، وسرد خطابها، وليست قاصة تكتب القصة القصيرة، إنما فازت بنوبل على كتابتها الأدبية التي تأتي من خارج الأدب، تعتمد الوثيقة الواقعية، وشهادات الناس، عبر إجراء مقابلات مع أشخاص عاشوا تجارب مؤثرة مثل الحرب، وتبني منها نصوصها التي تأتي حاملة لنبضات الناس ومشاعرهم وآلامهم. ولهذا، جاءت كتاباتها مؤثرة، وعميقة ومؤلمة، ما جعل بيان الأكاديمية السويدية يُركز على قدرة اليكسييفيتش، على تعميق الفهم بالحقبة التاريخية التي تناولتها في كتاباتها (المرحلة السوفييتية)، من خلال منهجها الاستثنائي في الكتابة، بصنعها بعناية كولاج من الأصوات البشرية. ولهذا، لقيت كتاباتها حول حرب أفغانستان، (1990)، وكارثة تشرنوبيل النووية، شهرة كبيرة لدى القراء، على الرغم من محاصرة النظام لكتبها، باعتبارها تنتقد وضعية الإنسان السوفييتي، وتجعله فاقدا لحريته.
إن طبيعة جائزة نوبل للآداب هذه السنة، تجعل التفكير يشتغل في ثلاثة مستويات على الأقل، أو يساهم في تطوير النقاش الأدبي من خلالها، نلتقي من جهة أولى بمستوى جنس الكتابة الأدبية، ومن جهة ثانية بمستوى مفهوم التاريخ الذي يمكن اعتماده من أجل إعادة إنتاج الوعي والمعرفة بمراحل تاريخية، ومن جهة ثالثة بمستوى الوعي بالكاتبة- المرأة باعتبارها شريكا في صناعة مفاهيم العالم. فعلى مستوى جنس الكتابة، فإن فوز كتابات سفيتلانا اليكسييفيتش بنوبل للآداب لعام 2015، يُحرر الأدب محور الجائزة من الأجناس الأدبية التقليدية (الرواية، القصة القصيرة، الشعر)، ويفتح الأدب على جديد الكتابة. والمسألة ليست بسيطة، أو مجرد فوز لنمط من الكتابة، إنما الأمر من وجهة نظر المعرفة النقدية، يتعلق بخرق لمؤسسة الأجناس الأدبية، الشيء الذي يعني الاعتراف بأشكال تعبيرية أخرى، تسعى لحكي العالم بناء على وسائل جديدة، وطرق مختلفة، ومعنى جديد للكتابة الأدبية.
وإذا وقفنا قليلا عند هذا الشكل الذي يبدو أن صاحبة نوبل لهذه السنة، تكتب من خلاله، وتبني نصوصها الأدبية من منطقه، يمكن التعبير عنه بما يُعرف بمصطلح «المحكي». وهو مصطلح لا يحضر بقوة في الكتابة والتلقي العربيين إلا نادرا، عكس الكتابات الغربية التي تستعمل المصطلح للتجنيس، مثلما نجد في التجربة الفرنسية. لكننا نلتقي بتجارب سردية مغربية ظهرت منذ منتصف التسعينيات من القرن العشرين، حيث جنَس مؤلفوها كتابتهم بالمحكي والمحكيات، قبل أن يبدأ التصريح بمصطلح «التخييل الذاتي» يعرف طريقه إلى النصوص السردية، وربما حدث ذلك، إما بسبب التأثير بالكتابة الفرنسية، أو الفرنكوفونية التي يكتبها كتاب مغاربة بالتعبير الفرنسي، تحت تجنيس «محكي»، أو لأسباب ذات علاقة بطبيعة علاقة السرد المغربي بإيقاع التحولات السياسية في المغرب، التي جعلت المؤلف يُعيد التأمل/التفكير في مسار أفكاره ورهاناته الإيديولوجية داخل التخييل السردي.
يتأمل الناقد المغربي رشيد بنحدو استعمال «المحكي/المحكيات»، وهو يحاول أن يقرأ محكيات «مثل صيف لن يتكرر» للكاتب المغربي محمد برادة، في دراسة له تحت عنوان «هذا أنا- هذا غير أنا» منشورة في كتاب جماعي «الشكل والدلالة قراءات في الرواية المغربية»(2001)، منطلقا من التمييز الذي وضعه جون سورل «بين الفعل اللغوي التصويري أو التشخيصي أو التقريري(… )، وهو ما يمكن التمثيل عليه بالتقرير الصحافي وبالملفوظ السير ذاتي، وبين الفعل اللغوي التخييلي، كالملفوظ الروائي بحصر المعنى»، بناء على أن النوع الأول يعتمد قواعد دلالية هي ضمان المتلفظ لصحة مقوله، ثم قدرته على البرهنة على صحة المقول، عكس النوع الثاني الذي لا يستجيب لهذه القواعد، ولا يخضع لها. ويعتبر رشيد بنحدو أن المحكي يختلف تكوينيا عن «الرواية»، إذ «لا يحتفي إجمالا سوى بالأشياء الأساسية الكاشفة والمثيرة، مُستغنيا عن الزوائد والتوابع. فهو بذلك يتعارض مع «الرواية» مثلما يتعارض البسيط مع المركب»، ثم إن الرواية تُولد الأحداث، فيما أن المحكي يُعرف بها. لهذا يرى بنحدو أن الرواية تعرض الأحداث وفق منطق سببي، أما المحكي فإنه يتدبر أمره لنقل الإحساس بكثافة الأشياء، وبالتباس المستقبل. نحن إذن، أمام شكل مختلف في سرد الأحداث، باعتماد تصور جديد للواقع، والخيال، وأيهما أقدر على صناعة الأدب. أما المستوى الثاني والذي تحفز جائزة نوبل مع الكاتبة اليكسييفيتش على إعادة النقاش حوله، هو معنى التاريخ الذي ينبغي اعتماده للوعي بالتاريخ نفسها، أو التاريخ الذي على الأدب أن يكتبه، لكي يجعل منه وسيطا لفهم ما حدث. تُؤكد الدراسات حول أعمال صاحبة نوبل لعام 2015، أنها تكتب التاريخ من خلال مشاعر الناس، وتعتمد ملفوظاتهم، وإجراء مقابلات معهم، ولهذا جاءت نصوصها نابضة بكلام الناس، وحاملة لمعنى معاناتهم.
فالأدب عند سفيتلانا يتأسس على تاريخ الناس الذين عانوا في الأزمات والحروب والعنف، ولهم الحق لكتابة معاناتهم، وعلى العالم أن يقرأ تاريخ الحرب من مشاعر هؤلاء، ومن صوتهم وملفوظهم. يصبح الأدب بهذه الصيغة تحققا رمزيا بمواد واقعية صرفة. وإذا كانت جائزة نوبل لهذه السنة تُمنح لكاتبة، استطاعت أن تكتب وجهة نظر سياسية من خلال نبض الناس، والضحايا، فإنها تقترح إمكانية للتعرف على التاريخ بحروبه وظلمه وقنابله النووية وديكتاتوريته بعين المرأة- الكاتبة. قد يقول قائل: إنها ليست المرة الأولى التي تفوز بها امرأة بجائزة نوبل للآداب، غير أن الجديد هذه المرة هو الرؤية التي تكتب بها الكاتبة، وتدعو العالم من خلالها إلى الإصغاء إلى المشاعر عوض الأحداث، وإلى كلام الناس، عوض الكلام عن الناس. عندما ظهرت الرواية أول الأمر بأوروبا، كانت اختلافا جوهريا عن الملحمة، من خلال احتفائها بالناس العاديين، وبلغاتهم البسيطة، وأفعالهم البشرية، ولذا جاءت تعبيرا عن تحول في مستوى موقع الإنسان في العالم، والأدب، ومع المحكي، وما يُرافقه من أشكال تعبيرية جديدة، يستقبل الأدب مشاعر وأحاسيس الناس، لعل تلك المشاعر تُوثق لتاريخ معاناتهم الحقيقية.
——–
القدس العربي