مقهى الشباب الدائم.. موديانو.. خفة الحياة!




هاميس البلشي



خاص ( ثقافات )

من رائعة كونديرا “كائن لا تحتمل خفته” إلى باتريك موديانو “مقهي الشباب الضائع” أصطدم بفكرة “العود الأبدي” للفيلسوف نيتشه، التي يدعي فيها تكرار الأحداث بلا توقف، فما نعيشه الآن عشناه، بالفعل، من قبل، وكل ما هو آتٍ ليس إلا تكرار دقيق للماضي، الحياة تعيد نفسها بكل تفاصيلها وكأننا نلف في دائرة مغلقة. 
“كل شيء سيبدأ من جديد، كما من قبل، نفس الأيام، نفس الليالي، نفس الأمكنة ونفس اللقاءات، العود الأبدي”.

في مقهى “كوندي” ينتقل موديانو بين الأحداث بشكل يُرعبني ويُشعرني أن الحياة أقصر مما أتخيل، يكشف حياة مريبة لمجموعة من البشر تجمعهم أخوة سرية، يتشاركون إحساساً بالوحدة والضياع، تتخيلهم لوحة مشوشة، مزدحمة بأناس يصعب معها تحديد ملامحهم، عبثاً يحاولون التكتم وإخفاء حقيقتهم وراء أسماء مستعارة وقصص وهمية يهربون بها من ماضيهم. انتماؤك لـ”كوندي” يمنحك ولادة جديدة، لا أحد هنا يهتم بالحديث عن الماضي، الجميع محمل بالذكريات السيئة والابتعاد عنها هي القاعدة المتفق عليها حسياً دون إجهار بالدعوة، من الأفضل لهم ألا يلتقوا أبداً.

“كانوا أوفياء لشبابهم أي لهذه الكلمة الجميلة والرخيمة والمهجورة التي نطلق عليها (بوهيميين)، أبحث في القاموس عن تفسير لكلمة (بوهيمي) فأقرأ: شخص يعيش حياة متسكعة من دون قواعد، ولا قلق على المستقبل، هذا التعريف ينطبق على مرتادي مقهي “كوندي”.

تحدثت مرة مع أحد أصدقائي المهتمين بالحريات عن إيمانه بأن “ليس لدينا ما نخسره”، وقاطعته محتجة بأن كلامه غير منطقي، نحن في الحقيقة نخسر، نخسر عمراً وأهلاً وأصدقاء، ولا نكسب سوى شرف المحاولة. الآن تتبدى لي صورة “لوكي”، أراها هناك في أقصى اللوحة، منكمشة على نفسها أمام نفس الطاولة، في عمق الصالة الصغيرة، “لوكي” التي لا تنتمي إلى أي عصر أو مكان أو حتى صديق، هربت من أهلها في الطفولة، لتنضم إلى مجموعة من الصعاليك المهمشين في أطراف باريس، يقضون أيامهم بين التسكع نهاراً والكحوليات ليلاً، ثم تقابل ثرياً يكبرها بخمسة عشر عاماً يقع في غرامها ويتزوجها وينتشلها من حياة الفقر والضياع، إلا أنها تهجره وتلجأ إلى “كوندي” تحتمي به من أشباح الماضي.
“كانت تريد الهروب والفرار بعيد جداً، وقطع العلاقة بصفة عنيفة مع الحياة العادية، كي تتنفس الهواء الطلق”

وهناك تتعرف على “رولاند” الهارب هو الآخر من كوابيس طفولته المشردة التي قضاها بين الجوع والحرمان وحياة والده المشبوهة التي كانت مصدر تساؤلاته ولغزه المستعصي على الإدراك “هل أنا مسؤول عن أبي، وعن كل الأشباح التي كان يتحدث معها بصوت منخفض في ردهات الفنادق أو القاعات الخلفية في المقاهي والذين ينقلون حقاًئب لا أزال حتى الساعة أجهل محتواها”. تشاركا و”لوكي” رحلة البحث عن الحرية، عن نقطة ارتكاز لحياتهما، عن العلامات الثابتة، والمناطق المحايدة.

بلغة سهلة موجزة، وعاطفة صادقة، وموسيقي خاصة، وعرض مكثف متعمد تشعر معه بأن الحياة ستنتهي سريعاً؛ يحكي “موديانو” عن الجزء الغامض من باريس، باريس الحواري والأزقة والضواحي الفقيرة، يحكي قصص أولئك الذين لن يتوقف العالم لأجلهم، ولن يفتقد أحد غيابهم، كما لم يشعر أحد بوجودهم، الذين يعيشون على هامش الحياة، في الظل، في أكثر الأماكن ضيقاً، موديانو يسلط النور على هؤلاء، يمنحهم عبر صفحاته مجالاً للحلم والتنفس وممارسة الحياة المشروعة، يخلد ذكراهم ويشهد على وجود أشخاص كانوا هنا، يمتلكون فيض من الحزن والمآسي والأحلام. “موديانو” يحرر حالة من التخبط والبؤس والهشاشة الإنسانية، كما هي، بكل ما تحتويه من أخطاء وذنوب، دون التطرق إلى المحاسبة أو توجيه اللوم. 
“عندما نحب شخصاً بشكل حقيقي، يجب علينا أن نقبل جزءه الغامض.. لهذا السبب سنبقى دائماً نحبه”.

لوكي انتحرت وهي تخاطب نفسها “انتهى الأمر، طاوعي نفسك واستسلمي”، أعتبر هذا الحدث بمثابة الصفعة التي أنهى بها موديانو عبقريته، لا أدري إن كانت ضاقت بحياة البارات الفنادق وعجزت عن المواصلة، هل هو الذعر من “الممثلين الثانويين الذين يتركهم المرء خلفه أن يعثروا عليه ويطالبونه بتسديد الحساب”؟ أم أنها كانت سعيدة لأنها لن تعد بحاجة إلى الهروب أو البحث مجدداً؟ 

“لم يعد ثمة خوف من أي شيء، كل الأخطار تافهة. المرء لا يمكن هزيمته. سوف أصل قريباً إلى شفا المنحدر الصخري وأقفز في الفراغ. يا لها من سعادة أن أسبح في الفضاء وأعرف إحساساً أخيراً بانعدام الجاذبية كنت أبحث عنه دائماً”.

شاهد أيضاً

العتبات والفكر الهندسي في رواية “المهندس” للأردني سامر المجالي

(ثقافات) العتبات والفكر الهندسي في رواية «المهندس» للأردني سامر المجالي موسى أبو رياش   المتعة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *