رلى راشد
ليس سراّ أن باتريك موديانو من أسماء الهجس بالماضي في قالب روائي، وإن دفع به ذلك الى شفا الإصرارالمُفرط.
يحلو للكاتب الفرنسي الذي بات مرجعا عالميّا من طريق ظفره بـ “نوبل” الآداب في 2014، بأن يكتفي بتقديم طيف الحقيقة على واقعها، فيجعل نصه على هذا النحو مرتَعا للشخصيات الشبحيّة المُعلقة بين عالمين.
ليست روايته “آحاد أغسطس” المنقولة إلى العربية أخيرا لدى “دار الساقي” مختلفة عن قريناتها التأليفية، بهذا المعنى. ها هنا أيضا يحترف الماضي التدخّل بالحاضر، في حين تفوح رائحة الذكريات الملتبسة من المطارح “نيس وسماؤها الزرقاء وبناياتها المضيئة” ومن وجوه الناس “تفرّست في وجوه المارة القلائل الذين نزلوا من القطار” ومن تلوينات الطبيعة وجمود الأشياء حتى.
تحتفظ الرواية المترجمة – بعد ولادتها الأولى بالفرنسية في 1986 (لدى دار “غاليمار”) – بأوراقها الثبوتية فتمنح عنوان “آحاد أغسطس” الذي يظلّ من دون تبرير ناجع إلى حين نصل إلى خاتمة النص وتحديدا إلى آخر سطر فيها، حيث ينصرف الراوي جان، وأخيرا، إلى هنيهات السعادة المرجوة فنقرأ “كنا مثل سائر الناس، لا شيء يميّزنا عن الآخرين في أيام الآحاد تلك من شهر أغسطس”.
والحال اننا لا نتعرّف إلى هوية جان سوى في لحظة متقدمة من السرد بينما يجري الإحتفاظ بشهرته مغفلة تماما. أما ما نعيه فاحتضانه ثلاث حيوات تتوزّع في ثلاثة أزمنة. وفي حين يلفّ الغموض شخصية جان تنسحب هذه الحال على سيدة بإسم سيلفيا أيضا يرتبط بها جان ويُخصص لها موديانو حياتان فحسب، بينما يرصد لها الإختفاء، في حركة السرد الثالثة.
في هذا المطرح يمارس موديانو هوايته الأحب والمنوطة بإيهامنا بأن ما نحن في صدد مطالعه على بساطة فاقعة، بينما يخفي في ثنايا القصّ تركيبا متكلّفا يحوم في ثيمات مختلفة ومن بينها مخلّفات العمالة إبان الحرب العالمية الثانية.
يلوذ موديانو وعلى عادته بمقتربه السردي الخاص حيث يعمد إلى أن يلقينا بداية في غمامة الإستفهامات قبل أن يمدّنا تدريجا بالمفاتيح الضرورية بغية فهم ما يحدث، ليسعنا عندئذ وإنما في إيقاع متمهل، أن نذيب الشمع الأحمر عن الألغاز المزروعة في قعر النص فنفهم ما يدور بين جدران الحكاية الموسومة بالتشعب.
يلتزم النص في صيغته العربية منطق الروائي وهو من عُرف عنه رغبته الملحّة في الإفصاح عن الطارىء والداهم، فينسخ بنية النص الفرنسي لاسيما على مستوى الفصول الستة عشرة المحرومة من أرقام والمقسّمة وفق أحجام متفاوتة تمنح القدرة على الإسراع ثم الإبطاء، مما يسهل اللوذ بجو الحبكة المبطّنة.
والحال ان النص المنقول يلاحق تقطيع الجمل كما في النص الفرنسي، وعلى قدر ما يسمح به تمرين التعريب بلا شك، وها إنه لا يتردد في استعارة العاميّة “الشغل ماشي؟ – بين بين. وأنت؟” عندما يلوذ النص الأصلي بفرنسية محكية. تشوب الترجمة المرضية إلى حدّ بعيد، بعض الأخطاء المطبعية البسيطة أحيانا، كأن تتسلل إلى النص كلمة “ديل” مكان “دليل” في الفصل الأول.
يسطو على الرواية المناخ الشبحي العزيز على موديانو والمشار إليه آنفا ليجعل الإبهام يُطبق على التطورات وعلى صانعيها أيضا، فنظلّ غير واثقين من فعل وجود الأشخاص ومن بينهم الثنائي نيال الذي يلتحق بمسار الكاتب الأثير، أي تشويش الهوية، وفي هذه الحال تتراءى هويتهما مغشوشة حتى.
“آحاد أغسطس” نص محكوم بثيمات مختلفة تبدأ بالفرار وتمرّ بالإختفاء والعزلة والإختناق والعتمة والأماكن التي تنطبع ألوانها كما شذاها على قاطنيها أو المارين بها فقط. في النص لا يلبث الحدث يختلط بآخر الى حدّ يجعل الراوي يفقد القدرة على تمييزهما، فيستدرج في لحظات إلى الشعور بالتعفّن في مطرحه.
موديانو سليل أصوات لا تكلّ من التنقيب في الهوية ومفاهيمها، وإذا كان يجعلنا نظنّ أن موقفه ملتبس في ما يخصّ الحقيقة والوهم، فمن أجل أن يعيد التأكيد انه نصير الذاكرة إزاء أي خطر يتهدّدها.
جريدة النهار