أمي عدوتي!

*لينا أبوبكر

لم أكن قبل لغتي لأعيَ معنى أن أكون أماً لأمي، لولا أن صغاري الذين اعتادوا أن يدللوا ذكرياتي مارسوا انزياحاً عاطفياً أو تبادلاً حرارياً أشبه بـ «الإنتروبيا» التي جعلتني طفلة أبنائي بعد أن كنتُ أمهم..!

الأمر أشبه بلعبة كيميائية لتبادل الحواس، تماماً كما يجيدها لوركا الذي سأل أمه أن تخيطه بوسادتها، في لقطة التحام هومونيمي بين حاستين برأس واحدة: القلق والطمأنينة، فيا للوركا!

بين الفصل والوصل يُحضر الخيميائي إكسير الأمومة بحجره الشعري حين (يمضي إلى زهرة الأبد ليعود إلى قلبه) دون أن يضطر لقطع حبل المشيمة بالطبيعة: (صوت أخضر لشجرة تين مقدسة تفتح ذراعيها) ليضمها إليه، فأي أمومة هذه المبنية على الضم بشفافية لا يجود بها سوى شعراء بدلوا خواصهم البيولوجية مع أمهاتهم، ليس لاعتبارات وظيفية أو تقمصية، إنما إدراكاً للمطلق بعد التشبع بطقسها الألوهي، وممارستها لفكرة تعاصر الوجود واللاوجود في صيرورة واحدة، ثم ممارسة الخصب كنظام للخلق ضمن مدلول تكويني مُعجز تُخرج به الميت من الحي، وهو ما يلتقي مع نظرة أوشو للأنثوية: (أن تعيش مثل المرأة تنتظر وتبقى في مزاج الاستعداد للترحيب بالضيف القادم ستصبح أنت الأنثى، على الإنسان أن يصبح أنثوياً ليصل إلى المطلق)، ولذلك يذبحك محمود درويش في قصيدته «أغنية زفاف» عندما يقول على لسان الغريبة: «لا أم تعجن شعري الطويل بحنائها الأبدي…/‏‏ لتكن أنت أمي في بلد الغرباء وخذني برفق إلى من أكون غداً»، وهنا تكمن قوة الإرادة التي تخلص الشاعر من أناه الطفولية ليستسلم لأناه الأمومية، إذ تولد من قرار اللغة المكين…

انفصام المخيلة

لغة لوركا ودرويش وأوشو مرَّنتني على أن أكون أما لأمي، وقد فعلت وكلي ثقة بأن الانفراد لا يحتاج إلى سياق مجاور أو محاكاة تقليدية بقدر ما يتطلب ندية حثيثة… ومناكفة طويلة النفس ومرنة، لأنه كان علي كأنثى – كما يفترض بي أن أكون – ألا أتعامل بذات التكنيك للوصول إلى المطلق، على طريقة الشعراء الذكور، فالأمر بالنسبة لي لم يكن سهلاً لأنني أم كأمي، على العكس تماماً، هذا هو تحديداً ما كان يذبحني وأتمنى بسببه لو أنني خلقت ذكراً، كي لا أصاب بخيبة لغة عندما أفشل باختبار المقارنة بمن لم أستطع أن أكونها أو أن أشبهها رغم أنني ابنتها البيولوجية وجينها اللغوي، وهذا أول أسباب عداوتي مع أمي!

حاولت كثيراً قتل أمي داخلي، خاصة لما كنا نحتدم في ظروف قاهرة – أشدها الكتابة تضع علاقتنا على المحك، لكن أمي كانت دائما أقوى من جريمتي، لا أعرف كيف كانت تخرجني من غيبوبتي لتعيد أدائي العقلي والبدني إلى الوضع الطبيعي، فأستفيق ويداي غارقتان بدم لغتي..

بعد كل محاولة كنت اكتشف أنني لم أكن أريد قتلها، في حقيقة الأمر.. كلها محاولات انتحار باءت بالفشل – حتى هذه اللحظة – لأن أمي كانت تنقذني من جريمتي، وأنجبها من موتي لتكتب للغتي تاريخ ميلاد جديد.

هذا الانفصام بالمخيلة والجريمة أنتج تناغماً بين اللذة والألم، وإنشاء معرفياً وحسياً للحنان، يستند إلى خصومة مع الذات لم تكن راحتها الأبدية هي راحة الأبد، فالركون إلى السلام الداخلي عندي هو خمول في المطيافية، ركود في التشظيات العنقودية لنواة «اللوغوس»، تصالح كسول لا يفضي إلى سلام داخلي بقدر ما يشل طاقة الحث على التفكير وسبر مجاهيل الجُنونَيْنِ: حناني وحقدي!

الجميل في هذه العلاقة ليس توتراتها البينية، وفورانها الظاهري، ومغالباتها الضدية، إنما كظيمها الغيظي المتسق مع نفسيتها الخصومية، إذ يشرح لها صدرها كلما جنح للمغالاة بالاضطهاد والقهر الذاتي مُغوىً بفضيلة الستر أو الاستتار بما يشف عن ضعف رقراق دون أن يصفه…. وهذا السبب الثاني الذي جعلني عدوة أمي!

تُراي أتحايل عليك أيها القارئ أم أخدع لغتي وأنا أجمل هذه العداوة، أو أحاول إسباغ مبرر إبداعي أخفف به وطأة الإحساس بالندم؟ هل ستكون هذه الكتابة صكاً للغفران؟ أم محاولة انتحار ماكرة طمعاً بعملية إنقاذ جديدة وخلاص بعثوي للغة؟ أم ممارسة للذة الشر التي تستنفر عندي حاسة الكتابة؟… لست أدري، أو بالأحرى لن أبالي، المهم عندي هو العداوة، أشرس تجليات الإبداع وأعذبها شروراً.

الاقتصاص من المجاز

يا للكراهية… أن تمارس الحب مع الكراهية بكفاءة اندماجية لا آلية، لن يكفيك لكي تعثر على الحقيقة، إنما حتماً سيغنيك عن الاقتصاص مِن المجاز بحرفية مَن يبدلون دينونتهم بمصيرهم دون جدوى، ولهذا أتنازل عن أمي في حالة واحدة فقط، حين أحقد على أخي الشاعر، ليس لأنه سبقني إلى المطلق الأمومي، فلهذا شأن آخر مع أحقادي، ولكن لأنني أظلم لغته كثيراً وأخون أواصرها حين أعدل مع أمه!

هل هي مُخاسرة أو بمعنى آخر مراهنة على الخسارة؟ حقا لا يهم، ما دمتُ مع سلفيا بلاث بضرورة التخفي، لم أتنكر بصلة الرحم بيننا لمخاتلة الغواية؟

كنت أتمنى لو تعيش أمي ولو فقط من أجل أن أروي ظمأ لغتي إليها بلغة أخي، هذه الأمنية الذباحة رافقها حرمان جبري فرضتُه على قلمي، حتى وصلتني صورتها والبحر يقد قميص أمي .. ويلاه، ما أجمل أمي!

لا أعرف لماذا تستهويك قصائد الرجال بأمهاتهم، بل كيف لا أتذكر قصيدة واحدة لشاعرة كتبت في أمها ما يضاهي كتابة الرجال، ولا حتى أنا، وهذا سبب لعداوتي وليس نتيجة؟

كان أخي عبد الله يطوف بالقصيدة كناسك صوفي وهو يغني: (أحن إلى خبز…. وقهوة…) ثم يرتل البقية شعراً….حتى يصل إلى: (أخجل…) وعيناه توشكان على الانهمار من دمعة أمي… حتى ليختلط عليه أمره، فهل القصيدة تجيء أولاً أم أنها أمي؟ قد لا يتبقى من هذه التأملية سوى مقطوعته التي تشفي غليل الحيرة بالمزيد من الاشتباك بين أولِ كُلِّ أولٍ وأمِّ كل أم: (وأمي التي علمتني الكلام وصارت تقاسمني فكرة الشعر/‏‏ تحمل فوق عيوني المعاني لأبصرها/‏‏ ثم تخبرني أن أقود النهار أمامي/‏‏ وأحمله في الورق/‏‏ إنها شجرة داخل البيت/‏‏ تحرسني بالظلال الكثيرة حولي وبالأمنيات وملح العرق/‏‏ إنها لا تنام سوى حين تسبقها كفها نحو وجهي وتهمس لي: «قل أعوذ برب الفلق»).

خاتم السديم وبوصلة المجرة

يقول تشيدي ماتشيا في كتابه (لهيب من نار وكلمات): «سمعت أناساً يقولون إن أمي كانت جميلة في شبابها، وآخرون يخبرونني أنها كانت أكثر الفتيات طيبة، ثم أصبحت أماً لثلة من الأطفال… تحب الضحك كثيراً وكان ضحكها صادقاً… اعتادت أن تجلس قرب المدفأة تحكي لأطفالها قصصاً وحكايا…».

وأنا سمعت عن أمي كما سمع ماتشيا، ثم رحت أفتش بين صورها عن ضفائرها الليلية في عمر القمر، ومريول مدرستها وعباءتها الفلسطينية المطرزة وطرحتها الشيفون ورسائل غرامها، وورد وجنتيها الأخضر الذي لم يزل غضاً حتى بعد أن تجاوزت الستين طفولة، ويا إلهي، كيف كبرنا وهرمنا ولما تزل أمي صبية يلكز خد التفاح زهرة نارها فيشب فيها الخفر، حيياً، بهياً، وبكراً!

هذه أمي، خجلها هو النار الأزلية لأنها نار الخلق، وذاتي «كسديم حلقاتي» تسر ناره الناظرين عن بعد ولكنه في حقيقته مقبرة للنجوم الميتة!

في المنافي هنا، وأنا وحدي، أراها بيني وبيني، كظل استواء أو بوصلة مجرية، وحين أفتش في مرايا الذاكرة أرى وجه أمي صورة معكوسة لوجهي، وبين المرآتين مزج ضوئي وتباين بصري، يصيبك بذهول أشبه بغيبوبة تفقدك الاستجابة إلى أي مؤثر ذاكراتي سواها، فحبل السرة الذي انقطع بيننا لحظة الميلاد استعاد عروته الوثقى بالحبل الشوكي المتهدل من كرتي الدماغية كشرارة كهربائية تغذي وريدي ورئتي بعطر أمي، الذي لم يزل مكنوناً كقارورة مقدسة في حقائب الغرباء التي تشدني إليها لقضاء أوقات حنيني في المطارات ومحطات القطار، لاهثة خلفها أفتش عن مركب كيميائي نفاذ لم يزل أريجه عالقاً في ذاكرتي ولا يشبه نفسه عندما ترتديه أم غير أمي! وهذا سبب قاهر لعداوتي مع أمي!

صوتها: وما من لينة في الأرض.. كاللغة!

صوتها…. لا أدري كيف ينتشر في الفراغ كتيار مغناطيسي ليبدد غربة السكون في زحمة الأصوات، وفجأة يتناهى إليك صوت فوق نطاق حاسة السمع.. إنه«إليوت»: (لم يعد هناك ما يكفي من الصمت لا في البحر ولا في الجزر ولا الصحارى ولا أراضي المطر، لا أريد أن أستدير أو أعود للوراء كما الأرض اليباب)…

صوتها اسمي الذي اختارته لي لأكون شجرة مثل أمي، لا امرأة، لكن الأنبياء سرقوا طلعي النضيد ولم يتركوا لأمي ما تهز به جذع السماء حين تبلغ مخاضها المريمي…. ولست أدري كيف يمور فجأة صوتها التراتيلي لينفخ في روح الآلهة من جديد ويعلن ميلاد المُنتهى إذ تناديني: ما من لينة في الأرض…. كاللغة!

(وحين تنزلتْ أمي علينا لم نكن بعدُ استوينا/‏‏ مثل صلصال الكتابة/‏‏ لم نكن من قبل أمي شعراءْ/‏‏ مضت لغة على زمن الكلام وجُن رب البيت في عرش القوافي/‏‏ وانطوى قلب الرعود بغيمة/‏‏ خرتْ على جبل من الأحزان/‏‏ فانصدع البكاءْ/‏‏ أتتْ من فوقها لغة/‏‏ أتت من شالها لغة/‏‏ أتتْ من صوتها لغة/‏‏ ومن عطر الكلام وغصة اللعنات في دمنا تناجي خوفنا: إني منزلة عليكم من إله الشعر من لغة السماءْ/‏‏ وهنا قالت لنا: كونوا، فكنا غرباءْ).

لا زلت أرى أبي في الصورة، بعد كل هذه الغربة التي تشكل بعداً رابعاً للمنفى، كأنها زمن نفسي أو ذاكراتي، أو مفهوم سري عصي على الفهم، كل ما يربطنا به إحساس جماعي بالزمن الأمومي لاستحضار الروح في مسرح كوني هو اللغة…

(وأذكر كنا صغاراً/‏‏ وكان أبي عالياً كنجوم الصوامع/‏‏ حين نكلمه نرفع الأرض فوق جبين الكلام/‏‏ وحين يكلمنا يخشع الأفق بين يديه ويحني له قمر الصومعات/‏‏ فنرهب حياً/‏‏ وحينا نجن انبهاراً/‏‏ وبين اعتلاء البروق وخفض جناح السموق… يفيء انسداراً/‏‏ وكنتُ أظن أبي ابن أمي/‏‏ أراه يشد لها ثوبها في دلالْ/‏‏ ويبكي إذا أدبرتْ من وصالْ/‏‏ يسابقنا نحو أحضانها مثل طفل تعلم للتو يمشي/‏‏ فهرول حين دعته إليها: حبيبي تعالْ/‏‏ وأذكر كنا صغاراً)… ولا أظنك أيها القارئ بعد لغتي تنتظر مني أن أؤكد لك يقينك بظني، لأنك حتماً عثرت بها على سبب آخر لعدواتي مع أمي!

وصية شر

قبل أن أموت، لا بد أن أؤثث قبري بمنضدة صغيرة ومقعد خشبي واطئ يريحني من حمل سقف الضريح على ظهري، وبعض أوراق وأقلام.. لأكتب رسالة أخيرة إلى أمي:

يا أجمل أعدائي، أحلفك بكل ما كان بيننا من قسوة وُثقى، أن تحبي لغتي أكثر مني، لأنها أنت، وتأكدي أنك عندي الأغلى وعداوتي لك أثمن من كل الصداقات والصديقين، فوحدها… وحدها فقط علمتني أن أكون لغتي!

خُلقت أمنيتي قبلي لتكون سبباً جنينيا للعداوة، فلا تهدأ أيها الشر بعد رحيلي… عليك اللعنة!

عقدة قتل الأم

حاولت كثيراً قتل أمي داخلي، خاصة لما كنا نحتدم في ظروف قاهرة – أشدها الكتابة – تضع علاقتنا على المحك، لكن أمي كانت دائماً أقوى من جريمتي، لا أعرف كيف كانت تخرجني من غيبوبتي لتعيد أدائي العقلي والبدني إلى الوضع الطبيعي، فأستفيق ويداي غارقتان بدم لغتي.. بعد كل محاولة كنت اكتشف أنني لم أكن أريد قتلها، في حقيقة الأمر.. كلها محاولات انتحار باءت بالفشل – حتى هذه اللحظة – لأن أمي كانت تنقذني من جريمتي، وأنجبها من موتي لتكتب للغتي تاريخ ميلاد جديد.

أحنّ إلى عطر أمي

حبل السرة الذي انقطع بيننا لحظة الميلاد استعاد عروته الوثقى بالحبل الشوكي المتهدل من كرتي الدماغية، كشرارة كهربائية تغذي وريدي ورئتي بعطر أمي، الذي لم يزل مكنوناً كقارورة مقدسة في حقائب الغرباء التي تشدني إليها لقضاء أوقات حنيني في المطارات ومحطات القطار، لاهثة خلفها أفتش عن مركب كيميائي نفاذ لم يزل أريجه عالقاً في ذاكرتي ولا يشبه نفسه عندما ترتديه أم غير أمي! وهذا سبب قاهر لعداوتي مع أمي!
_______
*الاتحاد الثقافي

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *