خاص- ثقافات
*د. يسري عبد الغني عبد الله
” إن إنجلترا تنتظر أن يقوم كل رجل بواجبه… حمدا لله أني قمت بواجبي”
( أدميرال لورد نيلسون)
إشارة بحرية مشهورة كانت ترفرف بها أعلام نيلسون فوق الأمواج، تقول : إن إنجلترا تنتظر أن يقوم كل رجل بواجبه، ترفرف على مبعدة من رأس ترا فلجار الأسباني أو ما يسمى بالطرف الأغر، وهذا يعني بلاغًا منه لأسطوله المحتشد، وهو يتأهب لخوض معركة مع الأسطول الفرنسي، وقد استجاب الإنجليز مفاخرين معتزين بهذا النداء.
تذكر كتب التاريخ الحربية أن الأدميرال الفرنسي فيلنيف المنهزم قال : لو أن أمة أخرى منيت بفقد نيلسون، لكانت خسارتها فادحة لا تعوض، ولكن في ذلك اليوم كان كل إنسان نيلسون !.
وكما نقرأ فإنه على أرض الواقع فقد استجاب كل رجل للتحدي الذي أداه الأدميرال نيلسون، وفي اللحظة التي كان فيها أعظمهم وأبسلهم جميعًا، وها هو نيلسون ذاته، ممددًا يجود بأنفاسه الأخيرة تحت سطح سفينته في ساعة انتصاره، يغمغم قائلاً : حمدًا لله أن قمت بواجبي !!
إن رسالة أدميرال لورد نيلسون الخالدة لم تنفذ إلى أعماق رجال ترا فلجار فحسب، بل كذلك إلى قلوب الإنجليز عبر الأجيال، تهيب بهم إلى احتذاء مثال أعظم رجال البحر الذين أتيح لإنجلترا أو للعالم أن يعرفهم على الإطلاق.
كان مولد هوراشيو نيلسون في التاسع والعشرين من شهر سبتمبر سنة 1758، في بار سوناج هاوس في بلدة برنهام ثورب بمقاطعة نورفولك، وكان والده إدموند نيلسون قسيسًا للأبراشية، لكن لم يكن ثمة أقل فرصة حتى يقتدي هوراشيو بوالده في مهنته كرجل دين، وقد تلقى تعليمًا يسيرًا، ثم انضم إلى سلاح البحرية وهو في سن الثانية عشرة، حينما أدت المخاوف من الحرب مع أسبانيا إلى وضع الأسطول في حالة استعداد.
وقد ألحق نيلسون بالسفينة ريزونابل، التي كانت تحت قيادة عمه، ومنذ تلك اللحظة، أصبحت البحرية البريطانية هي كل حياته، وقد تلاشت تمامًا مخاوف الحرب، ولكن نيلسون بقى في البحر الذي أحبه حبًا شديدًا، وشملت رحلاته البحرية تحت إمرة مختلف القادة بعثات إلى القطب الشمالي، وإلى جزر الهند الغربية، وسرعان ما تجلت شجاعته البدنية، حيث يحكى عنه في هذا الصدد : إنه عندما كان في منطقة القطب الشمالي، ترك سفينته لاصطياد دب قطبي بالرصاص، وقد انكسرت بندقيته، ولكنه الجندي الشجاع الذي لا يعرف التراجع أو الاستسلام، وبجرأة أقرب إلى التهور ولكنها صادقة، أخذ يهاجم الدب بسلاحه العديم الفائدة أو المكسور، ولم ينقذ حياته من الهلاك سوى قائده البارع في الرماية.
وسرعان ما سجل نيلسون لنفسه اسمًا بارزًا، فإن اقتداره على الإحاطة بدقائق الشئون البحرية وتفاصيلها، وما تهيأ له من شعبية وألفة مع الرجال العاملين تحت إمرته، قد أهلاه لتسلم زمام القيادة في عدة سفن حربية صغرى، وما أن جاء عام 1779، وكان نيلسون في العشرين من عمره، حتى رقي إلى رتبة قبطان.
وفي أثناء حرب الاستقلال الأمريكية، خدم مع الأسطول في كندا، والتقى نيلسون بالأدميرال لورد هود، الذي قدر أن يصبح صديقًا ومستشارًا له مدى الحياة، وعن طريق اللورد هود، تهيأ له أن يلتقي بالأمير وليم هنري، الذي سيصبح فيما بعد الملك وليم الرابع، وهو اتصال برهنت الأيام على فائدته، حينما تورط نيلسون بسبب هجومه الشديد الوطأة على تجارة العبيد في جزر الهند الغربية في سلسلة من الدعاوى القضائية، أقامها ضد تجار العبيد، إن هذه المشكلة التي نشأت عندما وصل نيلسون إلى جذر الهند الغربية سنة 1787، وكان يمكن أن يكون فيها القضاء على مستقبله العسكري، لولا أن الحكومة البريطانية منحته تأييدها، وتولى محامو التاج البريطاني الدفاع عنه بصورة ناجحة.
وقد حدث في نفس العام أن قابل فرنسيس نيزبت، وهي ابنة طبيب مشهور، ما لبث أن تزوجها فيما بعد، واقترنت حياته الزوجية بالسعادة والهدوء، وإن لم يرزق أبناءً، وظل هذا شأنه إلى أدت مودته المتزايدة لليدي هاملتون إلى إحداث صدع في حياته الزوجية، انتهى بالانفصال عن زوجته عام 1800.
أعلنت الحرب عام 1793 بين بريطانيا والجمهورية الفرنسية، التي كانت طواقة بعد إعدام ملكها وملكتها، إلى معاونة الأمم الأخرى على استرداد حرياتهم، وكانت هذه هي الفرصة التي ينشدها نيلسون، فإنه منذ ذلك الحين وحتى وفاته، غدا الفرنسيون أعداءه، وقد بدأ معهم سلسلة من المعارك، كان مقدرًا لها أن ترتفع به إلى أوج الشهرة، وفي نفس العام ذهب إلى نابولي الإيطالية، للمساعدة في حراسة سفن نابوليتانية، كانت تقوم بالعمل ضد الفرنسيين، وهناك التقى بالليدي هاملتون، زوجة ممثل أو سفير انجلترا في نابولي، السير وليم هاملتون، وقد تطورت صداقته لها حتى استحالت إلى حب عميق، وأنجبت له طفلة هي هوراشيا نيلسون هاملتون، وقد استأثرت منهما كليهما بالحب إلى حد العبادة.
لكن نيلسون برهن في مجال الحرب على أنه أكثر من متحبب أو محب رقيق فقط، فقد تم احتلال كورسيكا، وباستيا، وكالفي، بثمن كان جرحًا عميقًا في عينه اليمنى، خلف من ورائه عمًا جزئيا لعينه، وقد توجت حملة البحر المتوسط بانتصار باهر على مبعدة من كيب سانت فنست عام 1797، لعب فيه نيلسون تحت قيادة السير جون جير فيس دورًا رائعًا، وقد رأى قائده تكريمه بأن اختصه بتسليم سيوف الفرنسيين، وأنعم عليه برتبة رير أدميرال جزاء خدماته.
وقد شهد نفس العام محاولة غير موفقة جرت في ظروف غير مناسبة للاستيلاء على ميناء سانتا كروز دي تنريف، أصيب فيها نيلسون بجرحه الكبير الثاني، الذي أسفر عن تهشم ذراعه بصورة اضطر معها إلى بترها، ولكن شجاعته البدنية كانت خارقة للعادة، وقد روي عنه أنه قال في صدد ذراعه : ضعوها في أرجوحة نوم البحار الذي قتل بجانبي !!، والواقع أنه لم تمض 48 ساعة على فقد ذراعه الأيمن، حتى كان يكتب رسالته الأولى بيده اليسرى، بل إنه تولى بنفسه قيادة جماعات الهجوم المكلفة بالصعود إلى سفن العدو.
وكانت مهمة نيلسون التالية هي تدمير الأسطول الفرنسي، الذي كان مع نابليون بونابرت في حملته الفرنسية على مصر، وقد أبحر على ظهر السفينة فانجارد، بعد فترة نقاهة استمرت 9 أشهر بسبب جرحه، وسعى في إثر نابليون بونابرت بعزم صارم استحوذ على كل عقله، فسعى وراءه من جزيرة صقلية إلى جزيرة سردينيا، ومن نابولي إلى الإسكندرية المصرية، وفي النهاية لحق بالفرنسيين، وإن لم يلحق بنابليون ذاته، واشتبك معهم في معركة النيل الكبرى والتي تعرف لنا بمعركة أبي قير البحرية شرق الإسكندرية، وفي الأول من شهر أغسطس 1798، ومرة أخرى جرح نيلسون، وكان جرحه هذه المرة في جبهته، ولكن الفرنسيين أصيبوا بهزيمة نكراء، وعاد نيلسون إلى وطنه مكللاً بالمجد والفخار، وأنعم عليه بلقب بارون نيلسون أوف دي نايل، بينما منحه ملك نابولي لقب دوق مقاطعة برونتي الصقلية.
ولن تلبث الحرب، بعد هدنة قصيرة، أن نشبت مرة أخرى مع فرنسا سنة 1803، وأدرك كل إنسان أن هذا الصراع هو صراع حتى الموت، وقد اتجه البريطانيون جميعًا بأبصارهم إلى نيلسون، يلتمسون عنده النجاة والخلاص من الغزو المنتظر من جانب نابليون، ولقد أدى الانتصار الذي حققه ضد دول الشمال في معركة كوبنهاجن الدينماركية عام 1801، بسبب أعمال هذه الدول العدائية ضد التجارة البريطانية، وما تحقق لنيلسون من سحق ثورة قام بها النيابولتان بعد منجزاته الكبرى في موقعة أبي قير البحرية، أدى هذا وذاك إلى أن يتسنم نيلسون ذرى رفيعة لم يبلغها معاصروه، وهكذا لم يكن ثمة نزاع في أنه لابد أن تكون له قيادة الأسطول الإنجليزي، في قتاله الفاصل مع الفرنسيين.
وكان نيلسون يقضي وقته مع الليدي هاملتون في صيف عام 1805، حينما ترامت إليه الأنباء بأن الأسطول الفرنسي ألقى مراسيه على مبعدة من ميناء قادش، فلم يتردد في هجر مباهج الحياة في ريف إقليم ساري، فوصل إلى ميناء قادش على ظهر السفينة فكتوري في يوم عيد ميلاده، وانقض على الفرنسيين بهجوم خاطف في الحادي والعشرين من شهر أكتوبر، وكانت معركة ترافلجار، والتي نعرفها بمعركة الطرف الأغر، التي تلت ذلك في الساعة الرابعة والنصف من عصر ذلك اليوم، نصرًا لا لشجاعة نيلسون فقط، ولكن كذلك لخطته الإستراتيجية الجديدة، وكانت هذه الخطة تقوم على الاقتراب لا من مقدمة الأسطول الفرنسي، ولكن من وسطه ومؤخرته.
ما فعله نيلسون من إستراتيجية حربية جديدة، يؤدي إلى عزل بقية الأسطول عن سفن المقدمة، ولكن كان معنى هذا أنه بمهاجمة قلب الأسطول المعادي مباشرة، فإنه هو نفسه في قلب الأسطول الإنجليزي يغدو عرضة لنيران ساحقة ماحقة، ولكن نيلسون كان يعرف ذلك ويقدره جيدًا، وبينما كانت حبال وأشرعة سفينته تتهاوى من حوله، كان هو يشق طريقه في صميم الخطوط الفرنسية، للالتحام بسفينتي العدو الأماميتين، ولكن واحدًا من القناصة على ظهر إحدى السفينتين، وهي السفينة ريد وتابل، شاهد القائد الإنجليزي واقفًا على ظهر سفينته، فأطلق عليه رصاصة قاتلة هشمت العمود الفقري لنيلسون.
لقد أبيد الفرنسيون في معركة الطرف الأغر، وعلى الرغم من أن إنجلترا كانت أمامها أيام سوداء تمر بها قبل معركة ووترلوا، فإن غزوها لم يعد ممكنًا بعد ذلك قط على يدي دكتاتور فرنسا، بيد أن إنجلترا لم تبتهج للأنباء التي جاءتها من الطرف الأغر، لقد راحت تبكي حدادًا على فقدان أعظم سادة البحار التي تحيط بها وتحميها من الأعداء عبر القنال الضيق، الذي يفصل بينها وبينهم.
وأذكرك بأن هناك صورة شهيرة للأدميرال لورد نيلسون، تم رسمها بالزيت، بريشة الفنان الشهير / ب. ه. آبوت، وهي محفوظة ضمن صور المتحف الوطني بلندن، وتعد من أفضل الصور التي رسمت لهذا القائد الفريد، كما أن هناك صورة لنيلسون في ساعة انتصاره الكبير، مصابًا إصابة قاتلة برصاصة فرنسية، وأذكر لك أيضًا أنه في إصدار إشارة نيلسون، رفعت الرايات في تشكيل ثلاثي، فيما عدا كلمة (واجب) التي رمز لها بحروف منفصلة، وكانت سفن الأسطول تحمل نموذجًا لكل راية، وكذلك رايات بديلة لاستعمالها عند الحاجة إلى رايات مرة أخرى، وكانت الشفرة أو الكود المستعمل هو شفرة كابتن / بوبهام التلغرافي، ويحتفل الإنجليز كل عام في 21 من شهر أكتوبر، وهو يوافق ذكرى انتصار إنجلترا على الفرنسيين في معركة الطرف الأغر، برفع شارة الرايات مرة أخرى في السفينة الحربية فكتوري تخليدا لذكرى هذا النصر الكبير وإحياء لذكرى نيلسون القائد الشجاع والذي كان بحق رجل ضد المستحيل.
__________
*باحث وخبير في التراث الثقافي
Yusri_52@yahoo.com