خاص- ثقافات
*ميساء البشيتي
أغلقت المذياع بركلة وحشية وخرجت بلا وعيٍ مني ولا إدراك إلى ما كانت تعرف بالشوارع قبل أن تصبح خنادق! أخذت أجوبها طولًا وعرضًا، أفتش في كل ممرات المشاة عن خطى تشبه خطاي فأتبعها كي لا أضل طريق الأباء والأجداد وأتبع دينًا لم يعرفه أو يتعرف عليه قومي من قبل.
كيف أسكِتُ هذا الصوت القادم من أعماقي؟ كيف أشرح له أنني بتُ وحيدًا على أرصفة الشقاء؟ الجدران تنكرت لي ومغالق الأبواب، السماء من فوق رأسي تبكي لكن في غير موسم البكاء، كل الرفاق مضوا، كل الرفاق قضوا، بعضهم استشهد، والآخر استشرس، وبقيت وحدي بلا رفاق.
يكرهون اللون الرمادي، في آخر حديث لهم قبل الاستشراس طلبوا مني بالحرف الواحد أن أختار بين الأبيض والأسود.
لا أنتمي إلى اللون الأسود، لا أحبه بالمطلق، ولا أكرهه حدَّ قذفه بيمين الطلاق، أحب فيه شموخ الهيبة والوقار، وأكره فيه طعم الحزن، أكره امتصاصه الفجِّ لرحيق الشمس ودفنه لجدائلها في حدائقه فلا يستطيع إنسيُّ أن يعانق جديلتها أو يقبلَّ في لحظة يتيمة ثغرها عند باب الدار، لكنَّه إن هبَّ شتاء عاصف فقد يمنحك ظلالًا كاذبة من الدفء والأمان.
لا أنتمي إلى اللون الأبيض، لا أحبه حدَّ الانتحار في سبيله، ولا أكرهه فأتحالف عليه مع بومة الجوار، هو لون اللاشيء في عيني، لون الثلج حينما يحاصر مدن الفقراء، تميل إليه عيون الشمس في محاولة لاسترضائه لكنه يبعثر كل ضيائها في طريق العودة فتفقد ظلال الدفء وظلال الحياة.
للأسود سور عالٍ وجدر متينة لا تستطيع جحافل الفقراء اختراقها فيجلسون إلى جوارها فقط يمارسون عاداتهم القديمة الجديدة في الدعاء والبكاء.
الأبيض لوحة مستساغة لكل المتطفلين والمارقين، يخربشون على أفقه كما يشاؤون، وعليك وحدك أن تتحمل حرب الألوان الباردة دون أن تنطق بحرف واحد؛ فأنت في حضرة قداسة الأبيض.
رفاقي الذي استشرسوا يريدون مني أن أحدد ولائي إما للأسود أو للأبيض، يرفضون رماديتي، يكرهون رماديتي، يقولون أنها تخيفهم لأنها تعيق حروبهم ضدي.
(رماديتك تخيفنا) يرددونها على مسامعي باستمرار؛ فهم يرونني أحيانًا أنتمي إلى الأسود حين يصبح الأبيض مداسًا لأقدام الربيع فتكثر من حوله الألوان الفجة التي تحاول أن تضفي عليه بعض البهجة حتى لا يعود لون الموت.
ويرونني أحيانًا أخرى أنتمي إلى الأبيض حين يستأسد الأسود ويأكل الشمس، ويبتلع مطر الفقراء فتخرج منه حمم بركانية يلقيها في وجوه السذج فتنفجر بهم دون أن يهتز له جفن.
أنا لا أحب الأسود، لكنَّه في بعض الأحيان يمنحني بعض الدفء. ولا أحب الأبيض، لكنَّه في بعض الأحيان يشعرني بلحظة البدء. أنا أحب الرمادي لأنه يسمح لي بالتنقل عبر مداراته دون جواز سفر أو هوية، لا يوجد نقاط تفتيش في ممرات الرمادي، لا يوجد حواجز عليك في كل لحظة أن تحاول تخطيها.
الرمادي قد يكون هو الأسود حين يمنحك الدفء، أوالأبيض حين يمنحك الفكر، أو الأخضر، الأصفر، ألوان اللهيب، ألوان الاحتراق، ألوان النسيم، ألوان المطر الساقط من السماء قبل أن يتحول إلى حمم بركانية تجعل الأسود دخانيًا والأبيض بلون الدم.
لم يبقَ لي أي رفيق، البعض استشهد والبعض استشرس، وأنا بالرمادي أركض في ممرات من العدم، لا أعرف كيف أنتمي إلى وجهيِّ الموت الأسود والأبيض، والرفاق يلوحون بالقتل الرحيم عن بعد.
أنا أغلقت المذياع، وكل نشرات الأخبار، وأعلنت الكفر بالأسود والأبيض؛ فالرمادي ناصع البياض وهذا صدري لا يخشى طلقات الرصاص.