“الهايكو” أوهام السهولة والامتناع !


*خيري منصور

اذا كان الشعر قد استعصى على كل التعريفات التي تسعى الى تدجينه في مفهوم او اطار، فإن ما اطلق عليه الهايكو او القصيدة القصيرة الصامتة، بدءا من الرؤى الشرقية اليابانية حتى هذا الامتداد الكوني الذي عبر اللغات.

قد يكون اكثر استعصاء على التعريف، خصوصا لدى من يتلقفون المنجزات الابداعية بمعزل عن رؤاها وسياقاتها الحضارية، فما ان شاع مصطلح القصة القصيرة جدا حتى بدأنا نقرأ آلاف المحاولات التي ظنّ اصحابها بأن القصة القصيرة جدا هي مجرد بضعة سطور وانها قصيرة من الناحية الكمية، وبذلك فقدت تلك المحاولات المتماهية مع الأصول المشيتين معا، فلم تكن قصة بالمعنى الكلاسيكي ولم تصبح قصة قصيرة جدا، ويبدو أن ظاهرة الانبتات هذه لم تفارق الابداع حين يصبح في مُتناول الجميع على صعيد التلقي فحسب، فقد حدث ذلك في بواكير الشعر العربي الحديث او شعر التفعيلة كما اطلق عليه، حين ظن شعراء تقليديون ان الحداثة هي بعثرة العمود الخليلي واعادة توزيع الكلمات على السطور بنسب متفاوتة، وكان علينا ان ننتظر بعض الوقت كي يعزل القمح عن الزؤان بهزة غربال واحدة، وحين نعود الان لقراءة قصص قصيرة جدا من طراز انفعالات لناتالي ساروت، نعيد اكتشاف الفارق الجوهري والحاسم بين الصوت والصدى وبين الاصل والشبيه، وقد اتاح لنا جمال مصطفى مؤخرا في مختاراته من الهايكو من مختلف البلدان والثقافات فرصة المقارنة بين النّصوص، فالأصيل منها يمسك بأهدابنا ولا يدعنا نفلت منه سريعا، وكأننا ازاء تقطير لغابة، او قليل من الشهد انفق النحل الدؤوب ما لديه من طاقة في التحليق من أجل امتصاص الرّحيق .
مقابل ذلك، ثمة نصوص اشبه بعود الكبريت الذي يشتعل للحظة ثم ينطفىء، فالمفارقة وحدها والأقرب الى النكتة لا تعيش اكثر من لحظات قراءتها، لكنها تدرج عنوة تحت عنوان الهايكو.
وحين قرأنا لأول مرة ما ترجمه عدنان بغجاتي من نماذج الهايكو الياباني بدت المسألة للبعض منا وكأنها مجرد مقامرة وليس مغامرة، فإما ان تكون بضع كلمات قصيدة ورؤيا او لا تكون شيئا على الاطلاق، رغم ان موروثنا الادبي شمل ما يقينا من عواقب القمار على صعيد الكتابة، حين فرّق بين السهّل المطاوع او اليسير وبين السّهل الممتنع، وقدم لنا ايضا مفاهيم وجماليات مضادة للاطناب والعنعنة منها مواقف النفّري ومخاطباته، حيث تضيق العبارة كلّما اتسعت الرؤيا .
* * * * * * *
الهايكو الياباني ملكوته ومجمل منابعه هي الطبيعة، لكن ما ان هاجر الى اوروبا وأمريكا حتى اعيد انتاجه شأن معظم الابداعات التي تترجم او تهاجر فيعيد من يتلقاها انتاجها وفقا لمكوناته وحساسيته، فأرسطو لم يعد ارسطو عندما ترجم بعد حذف هواجسه ومرجعياته وعقلانيته، والتراجيديا والكوميديا اصبحتا المديح والهجاء وقد يضاف اليهما الأقنوم الثالث او ثالثة الاثافي في موروثنا البلاغي وهو الرّثاء الذي يندرج في خانة المديح لأنه في نهاية المطاف مديح آخر لكن للموتى، كما ان الهجاء هو مديح معكوس كما في الفصل الخاص من ديوان العرب المصنّف تحت باب التكسّب بالشعر، وموعظة الحطيئة لاحفاده من الشعراء عندما اوصاهم بالمسألة بمعنى الكدية والتسول وليس بالمعنى الشكسبيري الذي وضع السؤال في صميم الكينونة، وهناك شعراء عرب كتبوا ما يسمى القصيدة القصيرة ومنها ما سعى الى محاكاة القصيدة التي تأكل نفسها في تجارب امريكية، ومنها ما تورط فيما تورط به كتاب القصة القصيرة جدا واحتكموا الى مقدار الكلمات ولا شيء آخر .
الشعراء الغربيون في اوروبا وأمريكا زاوجوا بين الطبيعة والمدينة وان كان الانحياز اوضح الى المدينة وهي عالمهم اليومي ومجالهم الحيوي، لكن ما نخشاه ان تنتقل عدوى الهايكو الى العرب فتخرج القصيدة من الطبيعة والمدينة معا لتعود الى الصحراء، وتصبح مفرداتها كسائر مفردات المعجم الشعري الذي يستبدل الطائرة بالرّخ والدبابة بالحصان والصاروخ بالسهم، ونكتفي بمثال واحد في هذا السياق حين خاطب شاعر عراقي زعيما سياسيا سافر الى لندن وقال له أنختها بلندن، بحيث خذف الفارق نهائيا بين الناقة والطائرة .
* * * * * * * * 
ستبدو المسألة بالغة الطرافة، اذا كان من كتبوا القصيدة المقطّرة والقصيرة سيكتشفون ذات يوم بأنهم كتبوا الهايكو، مثلما اكتشف احد ابطال موليير بأنه ناثر لأنه لا يكتب الشعر .
وهذه القصيدة المكونة من تسع كلمات فقط لطاغور ماذا نسميها ؟
( النهر الذي جفّ لم يجد من يشكره على ماضيه )
وهناك قصائد عديدة كتبت بكلمات قليلة في مختلف الأزمنة والثقافات، ولم تكن مصنّفة تحت عنوان او في خانة .
يقول مترجم قصائد الهايكو ‘ والتي بلغ عددها مئتين وخمسا وسبعين قصيدة ‘ جمال مصطفى : ان بلدانا صغيرة وفقيرة مثل كرواتيا وسلوفينيا ازدهرت فيها كتابة الهايكو حتى ان الاطفال في تلك البلدان يعرفون الهايكو بينما ظلّ مجهولا في لغتنا وغير معروف الا عند فئة قليلة، وبدورنا نقول ان عدم تفشي هذه المعرفة قد يكون نعمة وليس نقمة، فعدد الشعراء والشاعرات العرب الان عبر الانترنت بالملايين، وفق ثقافة العادة الشعرية، وقد يتصور هؤلاء الهايكو مجرد عشر كلمات او اقل، وكفاهم الله شر الشعر لا شر القتال !
وفي زمن كهذا اوشكت فيه العملة الرديئة ان تطرد العملات كلها، ويطال التضخم حتى الأدب، تصبح الاصول مهجورة لصالح الاشباه، فالاستنساخ تخطّى النعجة دوللي بنسخ طبق الاصل من حيث الظاهر والشكل، واصبحنا بحاجة الى خبراء ليسوا متخصصين فقط في فحص الماس والذهب، بل في فحص الخيار والعنب والبطيخ بعد أن فقدت هذه المحاصيل عضويتها وتسرطنت .
والأخطر من ذلك، هو سرطنة اللغة والثقافة برمّتها بعلف كيماوي .
* * * * * * 
وصف ناقد ذات يوم الشعر الحرّ بلعبة تنس بلا شبكة، ولو قرأ ما يكتب الان باسم الشعر لقال انه مصارعة حرة مع الذات، او لعبة امام المرايا بحيث يكتشف اللاعب ان كل ما سجله من اهداف كان في مرماه فهو المنتصر والمهزوم في اللحظة ذاتها، ذلك باختصار لأنه أصبح سواه !
قمار لغوي، او لنسمّه احيانا رمية بلا رام، فالهايكو بما يعنيه من تقطير اللغة والرؤى وضيق العبارة كان قبل ان تصرف له بطاقة تصنيف نقدية، لكن ما قاله وايتهد يليق بهذا المقام، وهو ان الحضارة عندما تفرغ من شحناتها يتفرغ الناس لإصحاء وتصنيف ما قطعوا منها ! كمن يتسلق جبلا ويهده الاعياء فيجلس ليحصي المسافة التي قطعها ناسيا ما تبقى منها، لهذا اعتبر ابن خلدون وأرسطو علامتي تعب في حضارتين، حيث بدأ التحليل لما كان مركبا واحصاء ما فات وليس استكمال المغامرة نحو ما هو آت !!!
________
*القدس العربي

شاهد أيضاً

الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر

(ثقافات)  الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر مصطفى الحمداوي يقول أومبرتو إيكو بإصرار لافت للانتباه: “لطالما افترضتُ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *