القصيدة ما بعد المعاصرة


*مروان فارس


«تلهم بالاخضرار»
«لكن الشجرة أين تمسك بها؟
من جوهرها فارغة تغيب في السماء والأحجار
لا وادٍ ولا ساقية عذبة ولها إيقاع
فتنحو للاختفاء
في زاوية المشهد تحمل أصواتاً لها
تجري داخله صحراء ونغمات
ولكن ليس إلا نجمة لها أشعة وانعكاسات
يبقى الإلهام جالساً مع فتيات له
حزينة مذهولة تحت الورقة الأولى
منفتحة وغافية
أخيراً لا شيء ـ لكن ـ هو ـ يتهشم
فتتوجب الكتابة في الموت مع العصافير.
ـ هكذا يقول الرجل الصامت قبل انبثاق الشعر من الشجرة أو من الاخضرار أو من أشعة تنكسر في غياهب الأفول. هذا الحزن قادم من عذاب أو من وضوح في علم الساقية الذاهبة إلى الشعاع في معرفة اللغة، وهي إضافات إلى اللغة المنكسرة في علم النجوم الغافية فيما قبل الضوء أو الشعاع.
ـ إنه الرجل الصامت صلاح ستيتيه.
وإن ألف كتباً عديدة في السفر دائما من مكان إلى مكان. مسافر في الأرض، لا يقرأ الزمان بل يقرأ الحقيقة الغافية في كل شجرة تطلع من التراب إلى السماء حيث هي وارفة الظلال فقط في الشجرة. إن هذا هو علم الغرابة علم لا يعرفه إلا الشعراء. إنما هو أحد يشير إليه تحت الشــجرة وهــي غافيــة مثل الساقية في الانحدار. لهــا صــوت يفــوح مــن التراب.
لو أنه لم يقل يوماً إن الكتابة تنبعث من ورقة أو اخضرار. لو أنه لم يقل إن العذوبة هي في صوت أو في انحدار لارتفعت السماء من مكان لها إلى الغيمة حيث تقطن العصافير وحدها في اصطدام الغيمة بأخرى، في اضطراب المطر وهو يأتي من مكان إلى مكان.
خارج الكلمات
ـ هنا يحل الإيقاع محل الصورة في الشعر فلا يعود فرق بين الصورة والإيقاع. كل شيء يتتابع كما الموجات الصغيرة بعد ان تلقي حجراً في البحيرة أو في حلم فتيات صغيرات. تتوطأ الكلمات في الزاوية التي يأتي منها الرمل إلى الصحراء.
كلها كلمات عند صلاح ستيتيه تعرفها أو لا تعرفها ذات يوم وأنت تتوقع ما سوف يقول، لذلك فإن الشعر عنده يقطن في الكلمات أو خارجها. إنما هو في مكان لا يتعرف إليه إلا الذين يعشقون الكلام، فالموت حاضر عنده مع الفتيات ومع العصافير. إنه موجود وإن كان هو الغياب فلا أحد يستطيع أن يلغي الفرق عنده بين الحضور والغياب.
ـ عنده ان كل شيء يتلاقى مع الأشياء في الجوهر حيث تلتقي الفكرة مع مثيلاتها وهي ذاهبة إلى معطيات لها في الأبعاد. ذلك لأن العذاب، العذاب هو في الفكر والعصفور على العتبة والدم أيضاً، هكذا تنحو العصافير نحو الموت الأكيد. إلا أن أصعب موت هو موت العصافير التي يجب ألا تموت.
«لقد مات الولد وكأن هذا أنا
أنا ميت في غياب الشمس
لا تشعر بنفس في رقرقة ماء الحزن.
أنا وخاتمي في إصبعي مختفٍ.
يد قد ذهبت
عصفور كل هذا
يأخذ له أثراً جميلاً جدُ جميل.
غريب كل هذا هل هذا هو الشعر
ما عليك أن تكون إلا صلاح ستيتيه لتجيب.
من الصوت إلى المعنى
«ما هي العلاقة بين الأشعار والنثر؟ فالإجابة لا تفلت من إيحاء داخلي وهو حقيقة أولى ان الشعر يختلف عن النثر إذا يقرأ بصوت عال فلا تعرف قصيدة إلا بقراءتها. فأشعر بالحاجة إلى قولها فالقول بها أهم من الفهم لأسمع بأذني الدلالات التي هي تحــت ناظــري. نرى أن أندريه بروتون هو كان يمتحن صدق قصيدة بقراءتها بصوت مرتفــع. فالإيقاع يفترض بحد ذاته، يفترض الحضــور الشعري. فتتوجب دراسة الإيقاع الذي يعــلن عن حضور الشعر حكماً، بشكل لا يقاوم». إن هذا الرأي الذي يقول به جيرار غاساريان في مجلة الآداب الفرنسية يشير إلى عمق العلاقات بين الصورة الشعرية الداخلية في البيت الشعري وهي تذهب إلى الواقع في النص الشعري الذي يأتي من الصوت إلى المعنى.
لذا كله نتساءل عن معنى القصيدة في النص الشعري عند صلاح ستيتيه أهو في الصورة أم الصوت. أم في العلاقة الوثيقة بينهما؟ ان الصوت والصورة والإيقاع وحدة في القصيدة الجديدة ما بعد المعاصرة. لذا يتخطى الشاعر حجم الاختلاف بين المعنى والصوت بين الدال والمدلول. هذه القصيدة الجديدة بحاجة إلى دراسة جديدة ليُطرح سؤال آخر عن ماهية الشعر في جدل العلاقات الفكرية. هذا الجدل يحط عنده العقل كما تحط العصافير في رحلتها من الشمال إلى الجنوب.
«اخضرارات، وأشكال للسواقي
وبعض الرائحة في العقل، متكسرة
بعض الشيء قليلاً كانت
حوله، فجأة وكأنه متوحش وكأنه قد جن
تذكر صوفي من جوهرة
مع وصول مفاجئ لجيش من الموت
هذه قطعة من سماء، انفجار الورقيات»
من الصمت إلى الصوت
إن عناصر الأشــياء تتــلاقى في جذُع الشجرة التي تحتفل بانطــلاقة الوريقات ليعود كل شيء إلى الاخضرار الذي لا لون له إلا لون الانبــعاث في الطبــيعة التي تتهاوى أمام جيش المــوت القادم من اعــتبارات الزوال.
في قراءة الشاعر صلاح ستيتيه تختلف الرؤيا بين الصورة المتهاوية من سحيق الاعتبارات اللغوية الى سحيق الإيقاع الذي يستحق الاستماع إليه وهو يخرج من الصمت ذهاباً إلى الصوت الذي لا ينتهي إلا داخل الصورة الشعرية ليتم الانتهاء في الرحلة التي تنتهي في مكان لا حدود له إلا في الموت الذي يزحف من مكان إلى أمكنة متعددة داخل الصورة الغريبة عن الكون الاعتيادي، لتطلع شمس جديدة من اللون الذي يتماهى مع الإيقاع.
وحدهم الشــعراء يعرفون كيف تمتزج الألوان في اللوحة الطالعة من شمس التخيلات.
ان الشمس هي في كل يوم شمس جديدة تماماً كما القصيدة عند صلاح ستيتيه وان كانت صعبة للإدراك إلا أنها تؤذن بإدراك جديد قبل ان يصل جيــش الموت كما يقول هو بعد ان كتب عنــه محــمود درويش هكذا:
«ورأيت ما يتذكر الموتى وما ينسون
هم لا يكبرون ويقرأون الوقت في
ساعات أيديهم وهم لا يشعرون
بموتنا أبدا ولا بحياتهم لا شيء
مما كنت أو سأكون. تنحل الضمائر
كلها «هو» في «أنا» في «أنت»
لا كل ولا جزء ولا حيٌ يقول لميت كفى»
عند هذا النص يتلاقى الشعراء في الأرض، واحد من فلسطين، وواحد من لبنان كلاهما واحد بين «هو» «أنا» «أنت» هذا يعني أن القصيدة واحدة في كل مكان.
___
*السفير الثقافي

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *