*إيهاب الملاح
من الحالات التي تسترعي الانتباه في تأليف الكتب، وإنتاج مادة معرفية جديدة، تلك المعايشات التي تستغرق المؤلفين لفترات تطول وقد تصل إلى أعمار بكاملها في صحبة مؤلف تراثي قديم، أو كاتب ذي طبيعة خاصة ينتمي لعصر تاريخي سابق، ربما يرجع هذا بالأساس إلى إشكالية هذه الشخصية وتركيبها وثقافتها، وإشكالية ما طرحته من قضايا وموضوعات أنتجها وعي مفارق للجماعة، وعي انقسم على ذاته وأصبح موضوعا وأداة للدراسة والفحص والتساؤل معا.
يكاد ينطبق هذا الأمر بحذافيره على أستاذة الفلسفة الإسلامية والتصوف بجامعة القاهرة، الدكتورة هالة أحمد فؤاد في دراستها الضخمة «التوحيدي ـ الغفلة والانتباه» (صدرت عن دار المدى ببيروت في 1068 صفحة من القطع الكبير). دراسة جاءت نتاجا لمعايشة كاملة استغرقت سيرة ونصوص التوحيدي، المركبة والمتداخلة، وما كتب عنه لأكثر من 20 عاما، حتى خرجت الدكتورة هالة بهذا الكتاب الضخم غير المسبوق عن أشهر مثقفي القرن الرابع الهجري، أبو حيان التوحيدي.
وهالة فؤاد أستاذة الفلسفة بكلية الآداب جامعة القاهرة، من المتخصصين القلائل الذين توفروا بشغف كبير على دراسة الفكر الصوفي والنصوص التراثية الفلسفية، ذات الطابع الصوفي التأملي، واستنبطت من خلال خبرتها الواسعة مع هذه النصوص منهجا حرا وخلّاقا في قراءاتها وإنتاج تأويلات غنية، تفكك النصوص وتغوص وراء طبقات المعاني المتراكمة، وتراوح جيئة وذهابا بين الماضي والحاضر في عملية جدلية لا تنتهي.
وعملت هالة فؤاد، بشكل خاص، على نصوص التوحيدي، وبعد رحلة امتدت قرابة عقدين معه، انتهت من كتابها هذا الذي كان مقررا صدوره تحت عنوان (أبو حيان التوحيدي ـ رحلة الوعي من الغفلة إلى الانتباه)، ولكنها اختزلته إلى «التوحيدي.. الغفلة والانتباه». وكانت من قبل قد نشرت كتابها المهم «المثقف بين السُّلطة والعامة نموذج القرن الرابع الهجري – أبو حيان التوحيدي»، كما أن لديها مشروعاً حول الحكي الصوفي، يتناول نماذج متعددة من الحكايات الصوفية عند جلال الدين الرومي، وفريد الدين العطار، قدّمت قراءات أولية له فيما نشرته من بحوث ومقالات في المجلات والدوريات العلمية..
تقول هالة فؤاد في تقديمها للكتاب: «أصابتني نصوص التوحيدي بفتنتها المغوية ونزقها العميق واستدرجني زخم التناصات الثقافية المتباينة والثرية.. نصوص متعددة المستويات شديدة التعقيد والعمق رغم ما قد يتبدى أحيانا من ظاهرها السهل السلس. بل يمكننا القول إنها نصوص إشكالية ومركبة، بل مرهقة للقارئ لأنها تستدعي إلماما معرفيا وثقافيا واسعا عميقا بشبكة العلاقات النصية بكافة مستوياتها، وتاريخيا واجتماعيا وسياسيا واقتصاديا وثقافيا وعقيديا.. إلخ
ذلك أن نصوص التوحيدي تفتحنا على العديد من النصوص الأخرى المهمة في الحقول المعرفية المختلفة المهيمنة في زمن التوحيدي أو الهامشية على حد سواء .. ناهيك عن تحاور نصوص التوحيدي جدليا لا مع نصوص معاصريها فحسب، بل مع التراث الثقافي السابق عليها أيضا في مجالات متنوعة.
بل يمكننا القول إن هذه النصوص انطوت في أعماقها على إرهاصات مبدئية وبذور جنينية لما تبلور فيما بعد من إشكاليات، تطورت ونضجت تدريجيا في ما تلا من نصوص خصوصا في مجال التصوف والفلسفة ذات الطابع الصوفي إذا صح التعبير، ناهيك عن المساهمة الإبداعية الخلاقة في مجالات اللغة والبلاغة والأدب، وغيرها من المجالات كالآداب السلطانية على سبيل المثال لا الحصر».
فكرة الكتاب، كما توضح مؤلفته، تولدت لديها بعد أن كان مجرد مقال قصير أُلقي في القاهرة في إحدى الندوات الثقافية احتفاءً بمئوية التوحيدي، كان ذلك في عام 1995 من القرن الماضي، وعلى أثرها طلب منها الناشر فخري كريم (مدير دار المدى) أن تقوم بتطوير هذه المقالة إلى كتاب، وكان يسألها كلما رآها في أي مناسبة تجمعهما عن الكتاب، وكانت تجيبه بأنه سيكون جاهزا خلال شهر أو شهرين على الأكثر!!
الكتاب الذي كان مقررا له شهر أو شهران استغرق الانتهاء منه 20 عاما!! تقول هالة فؤاد: «كنت أكتب بشكل متقطع، واستطالت فترة الكتابة لمدة 20 عاما، وأحياناً أشعر بأنني وصلت للورطة كما أشعر أني غريبة عن هذا العمل لكن لديّ مشاعر تجاهه. بسبب طول المدة التي استغرقتها في الكتابة، ركزت على نص «الإشارات الإلهية»، كما واستفزني البعض في الحديث أن عددا من النصوص التي استشهدت بها هي ليست لهذا العالم».
هذا هو السياق الذي أنتجت فيه المؤلفة كتابها الضخم عن «التوحيدي»، ذلك المثقف الموسوعي الإشكالي، مثقف مغترب تورط حتى النخاع في إجراء حوار معرفي/ وجودي مع قضايا عصره والتراث السابق عليه أيضا، كان صوفي الهوى واستخدم التقية في عدد من المواقف التي كان يمر بها.
منطلق هالة فؤاد في تأليفها هذا الكتاب عن التوحيدي يتلخص بشكل أساس في رفض فكرة تجاوز التراث؛ إذ إنها ترى أن جذور مشكلاتنا الآنية موجودة بكامل حمولاتها المعرفية والفلسفية والإنسانية في هذا التراث السابق، الذي أصبح مثل حجرة مغلقة على كوارث، فلكل تيار فهمه الخاص أو تصوره حول هذا التراث، ولا يوجد أحد يحاول أن يطرح على نفسه سؤالا جادا وأمينا (هل هو حقيقةً يفهم هذا التراث؟) اتخذت هالة فؤاد من التوحيدي مسلكا لمعاودة ومراجعة هذا التراث، وإعادة النظر في آليات تعاملنا معه، وكيفيات قراءته وتحليله وتأويله أيضًا.
في «التوحيدي الغفلة والانتباه»، انطلقت هالة فؤاد من فرضية أساسية عبر حزمة من التساؤلات: كيف يمكن أن نؤسس سيرة لوعي التوحيدي (تأمل هذا المصطلح جيدا «سيرة وعي») وكيف نستكشف أو نعيد اكتشاف البنية العميقة لهذا الرجل، وما علاقة الذات بالمطلق والتداخل بينهما؟ وفي مقاربتها للحالة التوحيدية، رأت أن ناقدا بحجم جابر عصفور في حديثه عن أبي حيان التوحيدي، كان أكثر تمثلا لطبيعة هذا المفكر ووعيه المركب، والتباساته الإشكالية؛ إذ يؤكد أن أبا حيان كان نمطا فريدا من المبدعين لا يخضع للتصنيف الجامد الذي يختزل الثراء في صفة واحدة البعد كالموسوعية أو التصوف أو الاغتراب.. إلخ.
ذلك أنه، أي التوحيدي، كان تجسيدا لافتا للوعي المديني الذي من لوازمه الشك في التقاليد الجامدة والأوضاع الثابتة والقوالب المتحجرة، وإثارة السؤال الدائم حيث الأفق المعرفي النسبي المفتوح دوما للتعددية والاختلاف الثريين، والتسامح، كفضاء المدينة متعددة الأعراق والأجناس، واللغات والديانات والمذاهب والعلاقات.. إلخ.
إن مأزق التوحيدي، مثقف القرن الرابع الهجري، كما رأته المؤلفة، يكمن في أنه كان «حداثيا»، ربما أكثر مما يحتمل بعض الباحثين المعاصرين. بل إنه وعي يحلم بتتميم النوع الإنساني حضاريا؛ حيث يضيف اللاحق إلى السابق، فضلاً عن كونه وعيا يسعى لتأسيس صيغة اجتماعية أكثر رقيا واحتراما لإنسانية الفرد؛ حيث يتبادل الحوار الجدلي مع الآخر الاجتماعي، ولا ينسحق في ظل الجماعة وحتمياتها المتنوعة، وستتصاعد هذه النغمة لتسفر عن نقيضها تدريجيا؛ وستتجه هذه النزعة الإنسانية إلى طابع نخبوي متعالٍ، كرد فعل دفاعي إزاء وطأة حضور الجماعة أو الحشد حضورًا تسلطيًا رقابيًا عدوانيًا وهجوميًا في أحيان كثيرة، هذا هو ما نراه تفصيلا عبر صفحات الكتاب الـ 1068. ربما كان هذا الكتاب هو الأهم الذي صدر عن التوحيدي في العقود الأخيرة.
___
*جريدة عُمان