ريبيكا غولدشتاين… عندما تنزاح الفلسفة باتّجاه الرواية (1)

*ترجمة وتقديم: لطفية الدليمي

ريبيكا نيوبرغر غولدشتاين Rebecca Newberger Goldstein  : روائيّة و فيلسوفة وأستاذة جامعيّة أمريكيّة عرفت بأعمالِها الروائيّة الّتي تثيرها موضوعات فلسفيّة قديمة أو معاصرة ، وربّما ليس أفضل في وصف أعمال غولدشتاين من ذلك الّذي قدّمته مؤسّسة ماك أرثر MacArthur Foundation عند منح جائزتها لغولدشتاين عام 1996، فقد ورد في أسباب منحها هذه الجائزة : “تعدّ روايات غولدشتاين بمثابة مطارحاتٍ فلسفيّة مصاغة في قالب دراميّ من غير تضحيةٍ  بمتطلّبات الخيال الروائيّ ، وتروي أعمالها عادةً حكايات جذّابة تصف العلاقة بين العقل و المشاعر بتشويق وتعاطف وأصالة كما منحها الرئيس اوباما الوسام الوطني للاداب والانسانيات سنة 2014 وكرمت سنة 2015 لجهودها في جعل الفلسفة ركنا اصيلا في الحوار الثقافي” .

تواجه شخوص غولدشتاين الروائيّة معضلات الوجود والإيمان – سواء الدينيّ منه أو ذلك المتعلّق بقدرة المرء على استيعاب الظواهر الغريبة المحيطة بالعالم الطبيعيّ – باعتبارها حالةً مكمّلة للوجود الأخلاقيّ والعاطفيّ للفرد ، وقد برهنت روايات غولدشتاين أنّها محاولات ناجحة لتأكيد قدرة الرواية على أن تكون الوسيط الذي يمكّن القرّاء الشغوفين من مقاربة أسئلة الأخلاقيّات والوجود بكثير من الرّصانة و المتعة ” .

ولِدت ريبيكا غولدشتاين في مدينة نيويورك الأمريكيّة في 23 شباط 1950   و درست الفلسفة في كلية برنارد وحصلت على شهادة دكتوراه في الفلسفة من جامعة برينستون ثم درّست هي ذاتها الفلسفة في عدد من الجامعات منها : كولومبيا ، رتجرز ، برانديس ،،، وقد حصلت على جائزة ( ماك أرثر ) المرموقة عام 1996 و كتبت عدداً من الكتب نذكر منها : ( إشكالية ثنائية العقل – الجسد The Mind – Body Problem  ) عام 1983   ،  ( خواص الضوء : رواية عن الحب والخيانة و الفيزياء الكمية Properties of Light : A Novel on Love , Betrayal and Quantum Physics ) عام 2000  ،  ( عدم الإكتمال : برهان ومتناقضة كورت غودل Incompleteness : The Proof and Paradox of Kurt Godel ) عام 2005   ،    ( خيانة سبينوزا Betraying Spinoza ) عام 2006   ،    (  36 دليلاً على وجود الله : 36 Arguments on the Existence of God ) عام 2010  .

أحدث كتب غولدشتاين هو المعنون ( أفلاطون في عصر غوغل : الأسباب الكامنة وراء عدم موت الفلسفة ) الذي طرِح في الأسواق في آذار 2014 و يلقي الضوء الكاشف على التقدّم الهائل – وإن كان غير مرئيّ في الغالب – الذي أحرزته الفلسفة ، وبالتالي يبشّر بالقدرة المدهشة للفلسفة على مغالبة موتها المزعوم الذي روّج له ستيفن هوكنغ ، ومع انّ غولدشتاين صرّحت غير مرّة أنّها أحبّت الفيزياء و اجتهدت ان تكون فيزيائيّة مرموقة غير أنّها ترى أنّ العلم يعمل في فضاء يختلف عن الفضاء الفلسفيّ وانّ الفلسفة تخدم أغراضاً ليس بإمكان العلوم الطبيعيّة أو الإنجازات التقنيّة الإيفاء بها بنجاح وتمكّن كما تفعل الفلسفة . و بهذا الفهم تكون الفلسفة نوعاً من ترياقٍ للحفاظ على نمطٍ من التوازن العقليّ و السايكولوجي للإنسان و إبعاده عن الانزلاق في وهدة الخواء العقليّ و تبعاته القاتلة  ، تزوّجت  غولدشتاين عام 2007 من  زوجها الثاني عالم السايكولوجيا المعرفيّة   ستيفن بينكر Steven Pinker   الّذي يعمل  أستاذاً في جامعة هارفرد و قد نشر العديد من الكتب المهمّة في ميدانه المعرفيّ  و من أهمّها كتاب ( مادّة الفكر : الّلغة باعتبارها نافذةً على الطبيعة البشريّة ) المنشور عام 2007  .  عقدت غولدشتاين  حوارات عديدة مليئة بالطرافة و الحيويّة مع زوجها  و من بينِها حوار استغرق أربع ساعات ظهر في أحد أعداد مجلّة ( Seed ) عام 2004 .

كنت نشرت قبل مايقارب السنتين حوراً مطوّلاً مع الروائية – الفيلسوفة ريبيكا غولدشتاين تحت عنوان ( الفلسفة في عصر غوغل : هل ستموت الفلسفة ؟ ) ، وها أنا أقدّم حواراً ثانياً معها ترجمته عن موقع ( Ploughshares  ) الالكتروني  نُشِر في 23 آذار 2012 وأجرته ( راشيل كاديش Rachil Kadish ) مع غولدشتاين . مهّدت المحاورة لحوارها مع الكاتبة بهذه المقدّمة التعريفيّة المشرقة :

( …  تبدو المواقف المثيرة لدهشة الروائيّة – الفيلسوفة ريبيكا نيوبيرغر غولدشتاين عصيّةً على الإحصاء ، فهذه السيّدة الّتي تشكّلت مهنيّاً لتكون أستاذة فلسفةٍ قاربت ذروةً في حياتها باتت تشعر فيها أنّ الاستقصاءات الفلسفيّة الخالصة ماعادت كافية لها لاستكشاف المدى الواسع للتجربة البشريّة ، و كانت استجابتها الطبيعيّة لشعورها هذا هو اللجوء إلى كتابة الرواية . أنجزت غولدشتاين كتابة ستّ روايات و كتاباً لقصص قصيرة مع استمرارها في كتابة نصوصها الفلسفية ، و ليس ثمّة وصفٌ أفضل لأعمال غولدشتاين من ذلك الّذي وثّقته مؤسّسة ماك آرثر في مقدّمة تقريضها لأعمال الكاتبة عندما منحتها جائزتها المرموقة بالتأكيد على أنّ أعمال الكاتبة “تؤكّد الفكرة الرائعة القائمة على الاقتناع بأنّ الرواية في زماننا هذا يمكن أن تكون الوسيلة الأفضل لجعل القرّاء يتفكّرون بجدّية في الموضوعات الفلسفية و بخاصّة موضوعتي الوجود و الأخلاقيّات”.

تتحدّث غولدشتاين في رواياتها عن الناس لا عن الأفكار ، و لكنّ ما يحصل في الحقيقة أنّ قرّاءها يتصارعون مع الأفكار بشغف – و ربّما بعبثيّة في بعض الأحيان !! – و تبدو أعمالها على الدوام مثيرةً و ممتعةً و باعثة على الذعر أحياناً و لطالما صرّحت الكاتبة أنّها ترمي إلى “إدماج الحياة الحقيقيّة بحميميّة طاغية في مقارباتها الفلسفيّة” إلى حدّ بات يمكن فيه القول أنّ الكاتبة – الفيلسوفة ترمي إلى إلقاء حزمةٍ ضوء مشعّة على فكرة أنّ ثنائيّة الحياة – الأفكار تتعايش مع كلّ خفقة قلبٍ لكائن بشريّ” .

المترجمة

516079

_______
الحوار
* روايتكِ الموسومة “خواص الضوء : رواية عن الحب والخيانة والفيزياء الكمّية ” هي واحدةٌ من أحبّ الكتب إلى قلبي وأظنّها ستبقى كذلك في كلّ الأزمان : فهي آسرةٌ ، مسكونة بالأرواح ، مثيرة ذهنيّاً وممتعة على نحوٍ غير متوقّع ويمكن عدّها روايةً رومانتيكيّة تنتمي إلى العصر القوطي ، وفي ذات الوقت هي أحجيةٌ مؤسّسة على مفهوم فيزيائيّ . أتساءلُ : عندما بدأتِ كتابة هذه الرواية ، ما الّذي أشغلكِ في المقام الأوّل ، المفهوم الفيزيائيّ أم الحكاية البشريّة ؟
–  كانت لديّ عند الشروع  في العمل علاقةٌ ثلاثيّة الأطراف في ذهني : أب ، ابنة ، و رجلٌ شاب هو أحد أتباع الأب ومُريده المحبّ  وفي الوقت ذاته عاشقٌ لابنته . جعلتُ الثلاثة يعملون في في ذات المهنة ومعزولين عن نظرائهم العاملين في حقلهم المهني و لكنّ الثلاثة كانوا يتشاطرون فهماً حدسيّاً هائلاً فيما بينهم فحسب . في بداية كتابتي للعمل رأيتُ أن أجعل الثلاثة شعراء : كانت الأفكار الثورية الطابع والكاشفة تُخلقُ من جانب الوالد الّذي سبق له أن نشر عملاً تأسيسيّاً بارعاً وأصيلاً ولكنّه مضى من غير أن يلحظه أحد وهو الأمر الّذي دفع الأب إلى لعق مرارته بصمتٍ والانغلاق على ذاته في قلعة يأسه الحصينة مع ابنته ، وهنا يظهر الشاب الّذي يفهم أفكار الأب ويمتلك الأدوات لدفعها قدماً فيقلب الموازين الحاكمة لعالم الأب وابنته فثمّة حبّ عميق و خياناتٌ كبرى على كلّ الجبهات . عنوان الرواية “خواص الضوء” حتّم عليّ أحياناً  التفكير في جعل الثلاثة فيزيائييّن لا شعراء : كان لديّ منذ أمد بعيد شغفٌ عظيم في الموضوعات الفلسفيّة الّتي تنشأ في العادة عن ميكانيك الكمّ Quantum Mechanics  ، تلك النظريّة الفيزيائيّة الّتي تحطّمُ تصوّراتنا وأفكارنا الحدسيّة عمّا يسمّى “الواقع Reality” وعندما مضيتُ في جعل الثلاثة فيزيائييّن شرعت الرواية في كتابة نفسها بتلقائيّة عجيبة !! وكان هذا محض مثالٍ واحد لاكتشافي أنّ الفكرة الأدبيّة الّتي كنت أكتب عنها يمكن أن تنشأ عن انغماسٍ فلسفيّ طويل ومتشعّب الاهتمامات ، وأرى أنّ هذا ينشأ عن قناعتي بأنّ اشتغالاتي الفلسفيّة والعلميّة تنشأ عن إستخدام مناطق محدّدة من دماغي ولديّ قناعةٌ راسخة أنّ الإطار الادبيّ الّذي أعمل عليه هو حقّاً عبّارةٌ تستخدم لتمرير أفكاري العلميّة والفلسفيّة ، وعندما أفعلُ هذا أشعر بصدمةٍ حقيقيّة رغم أنّ هذا حصل لي في مرّات عدّة وفي كلّ مرّة منها أخاطب أجزاء دماغي المختلفة المشغولة بهذه الفعاليّات : “دعوني أعرّفْ بعضكم لبعضٍ وأعتقد انّ بإمكانكم أن تعملوا معاً ” .

RV-AN108A_WKNDC_GS_20140404170135
*  دهشتُ كثيراً عندما عرفت أنّ روايتكِ “خواص الضوء” تشكّلت تأسيساً على حكايةٍ كنت تروينها لإحدى بناتك قبل النوم ، وأرى أنً الأمومة – كجهدٍ يتّسم بالإبداع والمشقّة والعاطفة – واحدةً من التابوات التي يُحظر الاقتراب منها في الحلقات الفكريّة والفنّية الّتي تحافظ على تقاليد الصرامة المتقنّعة بقناع الجدّية المفرطة ، و ربّما كانت خطوة كارثيّة من جانبكِ أن تؤسّسي عملاً روائيّاً كاملاً على واحدةٍ من حكاياتك الأموميّة . هل ثمّة ما يمكن أن تخبرينا فيما يخصّ الموازنة المفترضة –  و التي لابدّ أن تكوني عملتِ بموجبها – بين دور القاصّة مالكة الأدوات الروائيّة المعقّدة وبين الأمّ الحكّاءة الّتي تبتغي دفع ابنتها الصغيرة إلى النوم ؟
–  سأبوح  لك  بسرٍ صغير: لم يكن باستطاعتي أبداً أن أكون روائيّة لو لم أكن أمّاً !!! . يمكن اعتبارُ كوني أمّاً وروائيّة القوّتين المتصارعتين – كما تلمّح لهذا في سؤالك – اللّتين دفعتاني صوب الرواية ومحاولة التفكّر في الأمور الّتي عرضت لي في حياتي .  اختمرت فكرة مزاوجتي الأمومة مع كتابة الرواية بعد ولادة طفلتي الأولى الّتي فجّرت مخزوني من العواطف الساكنة ، إذ لم أعد في أعقابها بعيدة عن دفق الحياة الدافئ و المنعش !! فلطالما كنت قبل تلك الحادثة الفاصلة في حياتي أسلك كفيلسوفة محترفة لا بسبب تدريبي المهنيّ وحسب بل بسبب مزاجي الشخصيّ أيضاً ، وما أعنيه بمزاجي الفلسفيّ هو النظر لأيّ شيء عن بعدٍ وبمجهر تحليليّ صارم يمكّنني من التنقّل بين المواقف المختلفة بأكثر الاشكال تجريديّةً ، ومن الطبيعيّ أن هذه الموضوعيّة المتطرّفة لم تعد مناسبة لي وبخاصّة بعد ولادة طفلتي الأولى إذ اقتنعت حينها أنّ هذه الصرامة الفلسفيّة لم تعد مناسبةً في تعاملي مع طفلتي من وجهة النظر الاخلاقيّة على وجه الخصوص : ما أعنيه هنا انّ التجريد الفلسفيّ صار يتناقض مع كوني أمّاً تنهض بمسؤوليّة تنشئة طفلها ولستُ أقول هنا أنّ تدريبي الفلسفيّ صار غير ذي قيمة – كما اعتقدتُ مرّة آنذاك – ولكنّ ما أعنيه بالضبط هو أنّ الأوان حان لمغادرة الطريقة الّتي كنت أقارب فيها الموضوعات الفلسفيّة ،  فمضيتُ في استكشاف آفاق جديدة في الكتابة الفلسفيّة لم أعهدها من قبلُ ، وحصل أن كتبتُ روايتي الأولى “معضلة العقل – الجسد”  ذات الدلالة الفلسفيّة الصارخة وأنا وسط دوّامة التفكير في كيفيّة تحقيق الانتقالة المرجوّة في نمط الكتابة التي كنت أتطلّع إليها . ثمّة ما أقوله أيضاً في هذه المسألة : ربّما ليس مصادفةً أن تكون ابنتاي كلتاهما متخصّصتين في الفلسفة كموضوع رئيسيّ في دراستهما الجامعيّة بالرغم من اشتغالهما الأدبيّ إذ تعمل ابنتي ( غولدشتاين لوف ) روائيّة متفرّغة أمّا ابنتي الثانية ( دانييلّلا بلو ) فتكتب الشعر .
 يتبع

goldstein

____
*المدى

شاهد أيضاً

في اليوم العالمي للشعر: كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !

(ثقافات) كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !  هذا ما قاله المكسيكيّ خُوسّيه بَاشِيكُو …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *