خاص- ثقافات
محيي الدين كانون *
غَمّس أصَابعَه في السماءِ السابعةِ حيثُ لا تصلُ لا طائرةَ ولا مركباتِ فضائيةِ ، لامسَ النجومُ ولاعبَها بين يديه البيضاءِ ضاحكاً ، ناورَ مُحاقَ الشّمسِ عن بُعْدٍ كي يسْتجلبَ دِفئَها إلى الكواكبِ الباردةِ المُعْتِمةٍ ، وأحاطَ القمْر بضوءِ الشّمسِ الذَهَبيّ . كُلُّ ذلكَ كانَ يقومُ بهِ بفعْل سُلْطانِ القلْب الأبيضِ ، لمسَ الفُلَّ واليَاسمينَ فصارتا بياضاً ، كما لمسَ أعْلى قِمْتيّ كوكبِ الأرضِ فأصبحتا جَليداً أبيضَ.
ذاتَ صبَاحِ من يَوم مشرقٍ دافءٍ ، من أحدِ أيام شهْر ديسمبر، وفي رُكْن قَصِيّ من غابةِ غوط الرُّمان حيثُ كان ( حازم ) يسيرُ مبتعداً عن والديه تحت أشجار الصنوبر والسرو الضخمة والكثيفة التي تحجب الضوءَ عن اختراقها ، لكنَّها كانت تسمح للريح أن تلامس أغصانَها فتحدثُ وشْوشة تسْري في مَفاصِل الغابةِ . حين اقترب (حازم ) مِن الجِهةِ الشّرْقيّة ِ ، لمحَ عموداً مِن النُّور الأبيض ، تحيّرَ مِنه في البدايةِ ، وأحسّ بالخوف للوهْلة الأُولى ، لكنّ فضولَه في أن يعرفَ سرَّ هذا العمودِ الأبيضِ كان أكبرُ مِن خوفِه ، وكان كُلّما اقتربَ أكثرُ تتضحُ الرؤيةُ أكثرُ ، فعرفَ أنّه فارسُ طويلُ القامةِ ، جالسُ في هدوء تحتَ شجرةٍ باسقة ٍ، بينما كانت ترْعي أمامه كلَّ حيواناتِ الغابةِ في هدوءِ وسلام ِ ، حدّق الفارسُ في (حازم ) مبتسماً ثم أخذ يحييه بيدِه اليُمنى البيضاء ، أندهشَ (حازم ) في البداية وخاف ؛ إذ لاحظ أن يديه يبدوان كطائرين أبيضين يرفرفان في المكانِ ، ولكن هدوء صاحبهما وابتسامته العذبة بدْدت خوْفَ ( حازم ) وغمرته ثقةٌ راسخةٌ ، تطاول الجبال ، واقترب مباشرة من بعض الطيور والحيوانات التي تسرح وتمرح أمام صاحب اليد البيضاء في هدوء وسلام قائلا بحزم :
– هل أنت ( بابا نويل ) متنكراً ؟
– لا ….!
– هل أنت (الخَضِر ) ؟!
– لا….!
وفي لهْفةٍ سأله حازم :
– من أنت إذن ؟!
– أنا صاحبُ اليَدِ البيضاءِ….نديمُ فِعْل الخير ونجْواه ، أُواسي المحْروم وأصابرَه بالقادمِ ، أُضَمّد المجروح ، وأضيء الفرح والسلام في حنايا النفس المظلمة .
، ثم التفت إلى الفارس صاحب اليد البيضاء متسائلا :
– ومن أسماك صاحب اليد البيضاء ؟!
لم يلق ( حازم )إجابة شافية ، واكتفى صاحبُ اليدِ البيضاء بابتسامةٍ عريضةٍ ، ودسّ في كف ( حازم ) اليمنى بضع حصوات ثم طواها ، وطلب منه ألاّ يفتحها إلاّ بعد حين عودته لأهله قائلا :
– من يقوم بالخدمة ويساعد الآخرين هو القلب الأبيض السليم ، والقلب الأبيض موجود في كل الكائنات الطيبة ، يحيل الشيء إلى الأحسنَ ، ويجعلُ من القلق أمنا ، والكراهية حبا .
بادر (حازم) مندهشاً وكأنه عثر على ضالته :
– ألهذا سمّوك صاحب اليد البيضاء ؟!
– ولم يسموني صاحب اللحية البيضاء .
– ألأن يدك بيضاء ، وليس لك لحية بيضاء ؟!
– لا ….بل لأنه لا تجدي لا اليد البيضاء ولا اللحية البيضاء ، بغير قلب سليم .
أخذت الشمس تتعامد وتتمركز وسط صفحة السماء الزرقاء الصافية ، فيما اقتربت غزالة دعْجاء رشيقة من( حازم )تتنسمه ، فسأله صاحب اليد البيضاء مبتسماً بثغر كالصّباح المشرق :
– ألديك يا (حازم ) قلب أبيض ؟!
– ردّ (حازم ) ضاحكا مستبشراً وهو يربت على رأس الغزالة بكفهِ اليسرى :
– نعم …ويد بيضاء دون لحية بيضاء مثلك .
ضحك صاحب اليد البيضاء من أعماق قلبه ، وطربت لضحكته أركان الغابة ، وجاوبت صداها أركان الغابة كلها ، بينما أخذ (حازم )مسربا أخضرَ اتجاه عودته إلى الركن الغربي من الغابة حيث مجلس والداه ، وحيث يطيب الهواء العليل والشمس الدافئة ، وبوصوله للمكان ، وقد لاح طيفه من بين الأغصان الكثيفة ، ناداه والداه في وقت واحد ، تلفّت خلفه ليتفقد مكان الفارس صاحب اليد البيضاء ، فلم يجد له أثراً كأنه سحابة اختفت في سماء عريضة ، حينها فتح يده اليمنى المضمومة ، ولم يصدق عينيه مما رآه ، سأله والده :
– من أعطاك هذه القلوب الجَميلة مِن الحلَّوى ؟!
لم يجبْه (حازم )، واكتفى بابتسامةٍ عريضةٍ كالشَّهْد ، عَلى إثْرِها ابتسمَ والدُه ، وقالت والدته ، وهي تلْتقطُ إحداها و تتذوقها :
– ما ألذَّ هذه القلوبِ الجميلة البيضاء !
________
* كاتب وأديب من ليبيا.