دفاعا عن الفراغ الباقي

*خيري منصور

قبل ثلاثة عقود وقع بيدي كتاب يحمل عنوانا مُثيرا هو أشهر الكتب العالمية، وما أن بدأت بقراءته حتى تساءلت عن الفارق بين الشهرة والأهمية، سواء تعلق الأمر باسم كتاب أو سلعة أو أي حدث استثنائي في التاريخ، وانتهيت إلى أن الفارق يتلخص في مسألتين، أولاهما ما تحظى به بعض الكتب من شُهرة تساهم فيها عوامل لا علاقة لها بالمحتوى.

وثانيهما أن هناك من الكتب ما تتجاوز أهميتها شهرتها، لكن ذلك يتطلب قراءة بريئة محررة من الضغوط ومن الإضاءة الساطعة التي تصبح حارقة في بعض الأحيان، لكن مثل هذه العائلة من الكتب التي تثير الفضول نادرا ما تقدم إشباعا، فهي مفاتيح أو أقرب إلى الدليل وهو ما سماه ستانلي هايمن القنطرة بين المرسل والمرسل إليه.

كان أهم ما لفت انتباهي كتاب شارك في تأليفه عدد من الأدباء والعلماء والفنانين حول مستقبل الثقافة وبالتحديد مع ولادة الالفية الثالثة، وكان ذلك شجنا كونيا شغل الكثيرين وهم يودعون القرن العشرين، الذي وصفه مؤرخوه بالقرن الغاشم وبأنه أقصر القرون لأنه بدأ مع الحرب العالمية الأولى وانتهى مع الحرب الباردة، لكنه كان الحاضنة التي باض فيها التاريخ بانتظار ما سوف يفقس منه في مطالع هذا القرن الجديد.

ونادرا ما كان موضوع كالفراغ محور سجال جدي بين عدد من المفكرين والفنانين، لكنه في عصرنا أصبح جديرا بهذا السجال، لسببين على الاقل، أولهما ما توقعه هربرت ريد عن البطالة الآدمية بسبب ما تنوب به الآلة عن الإنسان ، وثانيهما حق الإنسان في قدر من الفراغ يتيح له أن يقرأ ويتأمل ولا يكون في سباق ماراثوني يحرمه من ذلك.

لهذا نسبت إلى أحد منظري ثورة مايو/أيار عام 1968 عبارة قد تبدو غريبة، هي أن من أهداف الثورات الدفاع عن حق الإنسان في الفراغ، ولعلّ هذا أحد الأسباب التي تداولها النقد الأدبي عن عدم وجود روايات حديثة من طراز «الحرب والسلام» لتولستوي، و»الإخوة كراموزوف» لديستويفسكي، لأن قراءة مثل هذه الأعمال تشترط فراغا إيجابيا ومصطلح الفراغ الإيجابي أفرزته ثقافة الحرب الباردة على غرار الحياد الإيجابي، لأن السلبي من الفراغ والحياد معا يعني العدمية والانسحاب.

وبالعودة إلى هربرت ريد وتوقعاته حول مستقبل الفنون في هذا القرن نجده الأكثر تشاؤما، فهو يرى أن الفنون سوف تختفي، وأن الشعر قد لا يجد مكانا يعيش فيه على سطح هذا الكوكب، أما الروائيون فسوف يتحولون إلى كتاب سيناريوهات، فهل تحققت نبوءات هربرت ريد؟

للإجابة عن هذا السؤال لا بد من إعادة قراءة ما كتبه وما الذي يعنيه بغياب الفنون، فهو يرى أن العالم قد يمتلئ بالفنانين، لكن بالمعنى التجاري، وكذلك بالروائيين والروائيات لكن بلا روايات جديرة بهذا التصنيف الأدبي.

إنها نبوءة عن التعميم وما سوف يفضي إليه من تعويم، بحيث يختلط القمح بالزؤان وما من غربال للفرز، ولم يكن الإنترنت قد بدأ يفرض ثقافته عندما تنبأ هربرت ريد بما يجري الآن، وهو الأمر الذي ضاعف الفوضى، وتحويل العضوي إلى مصنوع، والتواصل الفعلي إلى عادات شبه سريّة، ما أدى إلى التناسل الأميبي لنصوص لا تحتكم لأي أسس أو مرجعيات، بحيث حذف الفارق بين الموهوب والموهوم.

إن الديستوبيا التي تخيلها هربرت ريد هي المرادف الفني لديستوبيا أورويل السياسية، فالعالم الآن يعاني من بطالة روحية في ذروة الانهماك، وهو ما عبّر عنه ريد بقوله إن النور سوف يملأ كل مكان في العالم باستثناء عقل الإنسان، وهذا ما توقعه أيضا علماء نفس من طراز ولهالم رايش، خصوصا في كتابه الذي حمل عنوان «رسائل إلى إنسان صغير» وهو الإنسان الترانزستور الذي يدار بالروبوت. أما أريك فروم فقد حسم الأمر عندما حوّر المقولة الشكسبيرية أن تكون أو لا تكون، وأصبحت أن تملك أو أن تكون، والحقيقة أن مجمل ما يجري الآن في العالم لم يكن خارج حدس وتوقعات فلاسفة وعلماء، رأوا عن بعد كيف يمكن للإنسان أن يفقد آدميته، ويصحو من النوم ليجد نفسه خنفساء، كما في رواية كافكا «التحول»، أو يتسلم رسائل من أعماق الأرض أو من الإنسان الصرصار كما هو الأمر عند ديستويفسكي.
ومن لا يكفون عن الشكوى مما آلت إليه البشرية وثقافاتها في هذا العصر ليسوا مجرد بشر مصابين بالنوستالجيا أو مأخوذين بالعصر الذهبي الغارب الذي تحدث عنه هزيود، فهم يقرأون ويقارنون، وقد سبقهم من قال إنه يفتح عينيه حين يفتحهما على كثير، ولكن لا يرى أحدا، وهو ما أعاد الشاعر أحمد حجازي صياغته حين قال، الناس في المدائن الكبرى عدد
مات ولد
عاش ولد
هذا الزحام… لا أحد
فالإنسان أصبح رقما أصم في استمارة أو جدول إحصاءات كما قال كونديرا، وتم انتهاكه حتى ظهرت تفاصيل أحشائه على سطح الجلد، وتضاءلت فكرة الإنسان عن نفسه بحيث أصبح ذائبا في سياقات أيديولوجية وأحيانا قبلية أو نقابية، ما دفع شاعرا مثل ألن غنزبرغ إلى أن يكتب اسمه بحروف صغيرة اعترافا بالانسحاق أمام ناطحات السحاب وغابات الإسمنت والحديد.

ما أشار اليه هربرت ريد يستحق التأمل وهو أن الكثرة أحيانا تعني العُقم، خصوصا إذا كانت متماثلة كأسنان مشط أو قطيع عجول، فمن يقدر الآن أن يدافع عن حقه في قدر من الفراغ يتيح له أن يتعرف إلى ذاته؟
___
*القدس العربي

شاهد أيضاً

في اليوم العالمي للشعر: كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !

(ثقافات) كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !  هذا ما قاله المكسيكيّ خُوسّيه بَاشِيكُو …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *