إن وجدت أن الآخرين لا يعطون قدراتك تقديراً عالياً كما تعطيها أنت، فلا تكن شديد الثقة في أنهم هم المخطئون، وإذا سمحت لنفسك بالتفكير في أنهم هم المخطئون فربما انزلقت بسهولة إلى الاعتقاد بأن هناك مؤامرة لمنع الاعتراف بموهبتك.
بهذا التحذير ينصح الفيلسوف برتراند راسل الإنسان – على اختلاف وظيفته وموقعه – ويؤكد مخاطباً إياه: إن هذا الاعتقاد يكون من بواعث الحياة التعسة، بمعرفة أن ميزتك ليست بهذه العظمة التي كنت تودّها أن تكون ربما تصبح شديدة الإيلام للحظة ولكنه ألم له نهاية ستكون الحياة السعيدة ممكنة مرة أخرى.
استدعيت عبارات راسل هنا- وهي مستلّة من سياق مقالة عميقة له تحت عنوان ” هوس الاضطهاد ” أشار فيها إلى أن بعض الناس يتخيّلون الآخرين يودّون الاساءة إليهم ويمضي في وصف عميق لحالتهم المرضية لافتاً إلى حقيقة مزعجة تتمثّل في قابليّتهم واستعدادهم لهوس الاضطهاد.
من يتابع وضع بعض مثقفينا أو من نعدّهم كذلك يفزع من حالة الاحتقان التي يعيشها بعضهم، فيراها في حضوره وفي كتاباته في وسائل التواصل على اختلاف منصّاتها، حيث اللغة العنفيّة المُحبطة التي لا ترى سوى القبح والفجاجة، وترصد من علٍ الواقع والمشهد من برج عاجي، فتنهال سهام نقدهم وتأففهم وضجرهم من الواقع المزري بحسب رؤيتهم وبصيرتهم إن كان ثمة بصائر..! ويزيد الطين بلّة تعاضد نظرائهم ممن يعيشون هذا الإحباط والسأم فتجدهم يتقاسمون معهم أرغفة الإحباط ولا يكتفون بهذا بل يتجاوز بهم الأمر إلى محاولة تصدير هذه الكآبة وحالة التذمّر وعدم الرضا بالواقع الثقافي وكأنهم المتحدثون باسم المثقفين والقيّمين على الذوق والذائقة، ومالكو مفاتيح القبول لما يصدر وما ينتج من أعمال إن على مستوى الكتابة أو على المستوى الفني بجميع أنواعه.
يظل النقد الفني الوحيد القادر على الكلام بينما الفنون جميعها خرساء كما أعلنها ذات يوم الناقد الكندي نورثرب فراي، وهو- النقد- دليل حياة ونبض فكر إن كان غايته فتح الذوات المغلقة والمنكفئة على نفسها، لكن أن يمارس من البعض لتصفية حسابات من المختلفين معهم فهذا الذي تأباه الذات السويّة والمنحازة للعدل والحقيقة في كامل تجرّدها. وليس محاولة تسقّط أخطاء وهنات الغير وعثراتهم بطريقة التشفي والإغضاء عنها وتجاهلها حين تكون من غيرهم. لتكن معاركنا نبيلة، معارك تروم أن نفكر معاً ونبتدع ونختلف لا غضاضة في ذلك طالما أننا نهدف إلى الخروج من قوقعة الأنا والاستيقاظ من أشكال السبات، ونكسر القوالب والأنساق لتغيير شروط المعرفة، وأن نفتح- بحسب المفكر علي حرب- أسئلة الحقيقة على مناطق جديدة، وأن نحسن صوغ الإشكاليات المختلفة بما ننشئه من خطابات أو ننخرط فيه من تجارب وممارسات.