خاص- ثقافات
*طالب عباس الظاهر
انحدرت دمعتان حالما بُوغت بسماع النبأ الصاعق… نبأ وفاة الأديب العربي الكبير نجيب محفوظ، وإعلان رحيله الأبدي عن هذه الحياة الفانية، ومن حسن حظي أن تكون جدران الغرفة لحظتها لا تضم بين جوانحها سواي، فربما رُمت بالجنون حتى ولو بالهمس خلال الأحاديث السريّة غير المعلنة، نتيجة ردة فعلي العاصفة تجاه النبأ، فما أسهل الرمي بهذا في عصرنا العاقل جداً جداً..!! وكنت أقفز من خلف مكتبي صارخاً بلوعة الأسى : مات نجيب محفوظ … نجيب مات … مات … ما …..!
فلمحت نصاعة بياض الحائط تسيح دموعاً… ولم أستطع التفريق إيانا كان يبكي … أنا أم الحائط؟! إلا إني وما أن خرجت بعجلة من الغرفة الى فراغ الممر، وأنا أحاذر ان يظهر عليّ شيئا من مظاهر تأثري الشديد، بالمسح جيداً لأيّ أثر لدموعي، ما أن خرجت… حتى تغير رأيي، وقررت العودة، إذ كان كل شيء يسير بشكله الطبيعي المعهود الذي لا يوحي بحدوث أيّ شيء على الإطلاق … الإخوة … الاصدقاء … الزملاء، الغرف…المكاتب… الأبواب … الشبابيك …المبنى بشكل عام، لذلك قلت مع نفسي: إذن لأعد الى مكاني كي أتألم بصمت لموته الكبير… ما شاء لي البكاء والألم، وأقيم مآتم حزني في الفؤاد، كما في رحيل الكثير من ضحاياي الداخلية، منذ وعيت وجودي الهش في هذا العالم الغريب العجيب، فإنها طعنة أخرى أتلقاها في الصميم، وإنه جرح آخر يضاف الى ملحمة الاوجاع المزمنة النائمة عميقاً في كياني، ونكسة تضاف الى بيدر الأحزان المتعالي في ذاتي.
ولكن أمرّ ما في الأمر ضرورة أن أظل محتفظاً بهدوئي وتفاؤلي المعهود، ورسم شبح بسمة على شفاهي حتى ولو كانت شاحبة كوجوه الأموات، فأطلقها بوجه أي قادم من الآخرين لأوهمهم بالسعادة، وأحرص على كتم ما بي من إحتدامات الألم ، لكيلا يفضحني الحزن وأدخل في متاهة الاسئلة بالعراقي الدارج بـ(خو ماكو شي )، وربما بأخواتها وبنات عماتها أيضاً، وإلا فكيف لي أن أشرح لهم من هو نجيب محفوظ، بل وما الذي يعنيه بالنسبة لي على الاقل، رغم إن الجميع تقريباً يعرف أو سمع أو قرأ اسم نجيب محفوظ بسبب الأفلام والمسلسلات التلفزيونية، وربما بفضل فوزه عام 1988 بجائزة نوبل العالمية للآداب، رغم إن هذه الجائزة بالحقيقية لا تساوي شيبة في مفرق الرجل.
وتساءلت مع نفسي بمرارة: هل تليق هذه الدموع بأديب عملاق كنجيب محفوظ ؟! وأجبت نفسي بسرعة: إنها قطعاً لا تليق به، لكنها تليق بي على أية حال، وارتحت كثيراً لهذا الخاطر، لقد أيقظ موت نجيب محفوظ الكبير أشجاني … فأصغر ذرة فيها كنت أشعرها كافية لتطيح بأكبر جبل، ثم بكيت عمراً حافلاً بالذكريات اللذيذة، منذ رواية (اللص والكلاب ) وحتى ملحمة (الحرافيش)، وبينهما العشرات في سلسلة قراءاتي لآثاره الأدبية الساحرة، وضجت في ذاكرتي مئات الاسماء والاحداث لأبطال روايته وقصصه القصيرة… بعمر أمتد طويلاً على مساحة الزمن، كبيت للنمل الآمن انسكبت عليه المياه.
فكنت أحبو صوب عالمه المكتنز بدفق الحياة، والصاخب بالسكينة، وأتتلمذ على سردياته، رغم إن بعضهم يسميها كلاسيكية قديمة، لكنها كانت وما زالت وستبقى تبث جمالها بشكل عجيب في كياني … عبر صدى صراخ ألم مكبوت يئنّ في دهاليز الروح، بيد إنه يمتزج دائماً بالسخرية، خاصة تلك المنضوية تحت روايته (السراب) التي لم ترق للكثيرين من زملائي الأدباء والمثقفين في مطلع الثمانينيات، بل والخلّص من أصدقائي، ربما لشدّة حماستي نحو قراءتها، واندفاعي في الترويج لها، لكني ورغم ذلك بقيت اقرأها لعشرات المرات، وأقتنيها ككتاب دافعاً ثمنها الباهض على إمكانياتي المادية المتواضعة لأكثر من خمسة مرات تقريبا، حيث إنني لا أملك حين مصادفتها معروضة بين الكتب إلا سحبها، ودفع ثمنها ان كنت قادراً على الدفع، ولحسن الحظ أيضاً إني غالبا ما أكون غير قادر على دفع ثمنها… فأتحسر، ورغم ذلك… رغم ذلك فأنا لا أملك لأية نسخة منها الآن.
أنت يا كامل رؤبة لاظ… وأنتِ يا رباب، الساكنة العمارة البرتقالية… يا حبيبته الجميلة الغادرة، وزوجته الخائنة فيما بعد، فقد كانت مرأة أسطورية عشعشت في الخيال، فمن فرط حب بطل الرواية لها برأ خيانتها، فجعلنا نجيب محفوظ نغفر لها جريمتها به، ونظل نحبها معه… بل نعشقها للآن رغم قبح جريرتها، قاذفاً باللوم كله على نفسه أو حظه العاثر، وتربيته الشاذة، كما صورها بعض النقاد ووسموها بعقدة (أوديب)، وهكذا المحبون دائماً… فيا رباب … يا رباب ..يا من طيفها للآن – رغم مضي عشرات السنين – يسري في خاطري كالنسيم العليل، كلما مرت ذكرى رواية (السراب) في ذاكرتي منذ ثلاثين عاما أو يزيد من السنين، وانت يا أم كامل وروبيه لاظ، التي قتلها حبها الأمومي الخارق، فكانت مصداقاً للقول المأثور” إن بعض الحب ما قتل ” وأنت يا لاظ أيها الجد الكبير… وأنت يا أباه السكّير العربيد… وأنتِ أيتها العاشقة الحنون، التي ساقها القدر في غفلة من الزمن لدسها في حياة بطل الرواية، وهو في خضم شكّه ومراقبته لزوجته، فوجد لديها الدواء لعجزه الفطري، ولكن بعد فوات الاوان.
لقد مات… مات نجيب محفوظ، أجل مات… مالكم لا تضجون بالعويل … مالكم هكذا صامتون؟! لم يبخل عليكم نجيب محفوظ بشيء، وسقاكم من ماء عيونه، وأمدكم من توجسات روحه اللائبة، وأنت أيتها الحياة… ما هذه اللا مبالاة، رغم اننا فقدنا آخر العملاقة، وربما أولهم، فقد هوى أخيراً الجبل … جبل الابداع الروائي العربي وفارسه المغوار.
فبكيت نفسي بحرارة لهذا الموت الأصيل، بكيت بصمت جارح، فغالباً ما نبكي أنفسنا في موتانا ونحن نعتقد إننا نبكيهم، وها هي دموع كلماتي تنهمر سائلاً أسود… بحروف مجروحة الفؤاد… تبكي هذا الكم الهائل من الذكريات، فمنذ نعومة أظفاري، وتفتح قريحتي القرائية، وأنا اتلذذ باكتشافاتي لعوالمه الداخلية… الضاجة بالآلام والأحزان، وبمرارة السخرية، وبـ(الكوميديا السوداء) كما يسميها النقاد، وأحسب إنني أتفهّم جيداً، ربما بصورة غير تقليدية لمراميه الخفية… السحرية خاصة، فكثيرا ما كانت تختلط دموعي بالضحكات وأنا أقرأه، لا لموقف مبك أو مضحك على وجه التحديد، بل هكذا لجمال الحقيقة الجارحة… لروعتها، مقتفيا أثر الصرخات المكبوتة… الصادرة من اعماق الصيرورة لشخوصه الروائية او القصصية، إذ انه لا يضاهى في قدرته في البناء النفسي للشخصيات، وفي رسم معالمها الداخلية… وبدقة أكثر في عملية تخليق جوهرها الانساني، بأبهى صورة وأوضحها، حتى تكاد تكون مجسمة للعيان، وتترك مواقعها من بين بطون الكتب, لتتحرك حية على مسرح الأحداث، وكأنها من لحم ودم، وكذلك في إدارة الحوار بين عدة أشخاص في آن معاً، فنكاد نتعرف على كل واحد منهم من خلال الخصوصية في حواره المعبر عن مكنوناته، والذي لا يمكن ان يصدر إلا منه، ولا يمكن أن يعتمل في ذات إلاّ ذاته المخلقّة فنيا بشكل محكم.
مات نجيب محفوظ … أجل مات، ويالها من حقيقة هائلة… مات فماتت معه كل تلك الاحتجاجات البليغة على منطق الزمن، ومات تمرد السير على خطوات هذي الحياة الغادرة باختيار الموت، ولا عجب أن يبكي المرء انسانا لم تجمعه به مسالك الحياة، ولكنهما التقيا كثيراً في دهاليز النفس، ولم يره على الطبيعة، ولكنه رآه بعين الضمير، ولا عجب أيضاً أن يكون اللقاء الروحي أكثر تماسكاً من لقاء الكثير من الأجساد، لأنه نجيب الأدب العربي، وإن حياة محفوظ ستظل محفوظة في وجداني، وفي وجدان الملايين من قراء العربية وغير العربية، لأنه سكن وجدان الحياة، فوهبها الكثير من جمال الانسان، فهل ممكن لأديب انساني عملاق مثل نجيب محفوظ أن يموت…إلا لكي يحيا؟! فعلامَ الحزن إذن، وحتام تسكننا الأنانية… فلندع الرجل ينام بسلام في قبره قرير العين.