أدب نجيب محفوظ.. الواقع لا يتغير بالأحلام




الكاتب العبثي- كما يوضح «مارتن إيسلن»- يتخلى عن النقاش حول عبثية الوضع البشري، ويحاول أن يظهره ويجسده فقط في الوجود، من خلال أدواته الإبداعية والفنية، بعبارة أخرى فإن الفن العبثي لا بد أن يتجلى من خلال اللغة والحدث والمضمون والشخصيات، فالكاتب العبثي الحقيقي لا يسعى من وراء أدبه إلى أهداف أو غايات أخرى تتجاوز الوعي التعس بعبثية الحياة.
وعلى هذا فإن «حسن حماد» في كتابه الصادر عن المجلس الأعلى للثقافة تحت عنوان «محنة العبث ورحلة البحث عن خلاص» يرفض أن يصف نجيب محفوظ بالكاتب العبثي، فكتاباته المتنوعة سواء في الرواية أو القصة القصيرة تتصدى لمعالجة هموم وقضايا ذات طابع إنساني وميتافيزيقي، مثل الموت، المجهول، القدرية، الخوف، العجز، انعدام المعنى، العزلة، الاغتراب، اليأس، الخواء، اللاجدوى، وغيرها من القضايا الوجودية، ومنها بالتأكيد العبث، لكنها مع ذلك تختلف عن أعمال كافكا وبيكيت ويونسكو، وغيرهم من كتّاب العبث.
يعالج نجيب محفوظ، موضوع العبث في رواياته على طريقة سارتر وكامو- كما يوضح حماد- فهو يعترف في كثير من أعماله بأن الحياة عبث، ولا معنى لها، لكنه يرفض الاستسلام لإغراء الاستمرار في الإيمان بهذا العبث، ويحاول أن يجد مخرجاً أو خلاصاً من هذه المحنة: محنة الوجود الخالي من المعنى والقيمة والهدف، ويستطيع القارئ لأدب محفوظ أن يستشف بسهولة عديداً من المواقف الدرامية، التي تؤكد عبثية الحياة ولا جدواها، وعقم التجربة البشرية، فالحس التراجيدي يكاد يسيطر على معظم أعماله القصصية والروائية، ونادراً ما ينجو أبطاله وشخوصه من المصير المهلك المدمر لكل آمالهم وطموحاتهم وأهدافهم.
يبدو أن محفوظ الذي استوعب الواقع المصري الحديث بصورة جيدة وعميقة، قد أدرك بحس وبصيرة الفنان مدى هشاشة الأمل وذبول المعنى في ظل القهر السياسي وغياب الحرية وهيمنة شكل أحادي للسلطة في مختلف العهود، الذي كان من أبرز نتائجه غياب الوعي السياسي لدى الجماهير، وانحسار التفكير العقلاني والإبداعي، وسيطرة التفكير الديني الأصولي التكفيري، الذي يلبي حاجات ونداءات الجموع المقهورة اليائسة.
يرى حماد أن محفوظ أدرك ببصيرة الفيلسوف الفنان أن الواقع أقوى من تمرد «سعيد مهران» على كلاب الحراسة، وأن ثورة «عمر الحمزاوي» التي تستند على رعشة الحلم لم تستطع أن تفعل شيئاً مع أسنان الواقع المدببة، وحتى الاشتراكية العلمية التي ظل «عثمان خليل» يدافع عنها حتى آخر لحظة في حياته لم تستطع أن تغير شيئاً في واقع شديد التخلف، وبالمثل فإن رحلة «صابر» للبحث عن الأب الغائب، الذي كان يأمل أن يمنحه الحرية والكرامة والسلام لم تكن إلا رحلة في قلب الظلام والتيه.
يوضح المؤلف أن محفوظ يحاول أن يؤكد في أعماله أن الواقع لا يتغير بالأحلام أو بالأفكار، كما توهم جعفر الراوي في «قلب الليل» لقد كان هدف جعفر أن يؤلف مذهباً جديداً يجمع بين المادية والروحية، لكن مذهبه انتهى به إلى الجريمة والضياع.
_____
*الخليج

شاهد أيضاً

أول رسالة دكتوراة رقمية تفاعلية في الأدب العربي

(ثقافات) أوَّل رسالة دكتوراة رقمية تفاعلية في الأدب العربي: أركيولوجيا الصورة في رحلة ابن بطوطة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *