السّيد الأَنيق

خاص- ثقافات

*محيي الدين كانون

 كانَ صافياً صفاءَ الوَرْدِ في أغْصَانهِ ، ينْشِرُ شَذَاه عبْرَ بسْمةٍ تَشّعُ في المَكان ِ   الدفءَ ، وبإماءةٍ منْه يتَحوّلُ المكانَ نفْسَه إلى بَاقةٍ من السُّرور الدائم . كانَ سِحْرُ مظْهَرِهِ لا يُقاومْ ، تلْحَقُه نجْوى البعيد قبْلَ القريبِ ، يَتْرُكُ أثَراً لا يُنْسى عِنْدَ مُحَدثِهِ ، هكَذا كانتْ صِفاتَه وخِصالَه ، حبّاتٌ من الِسبّحةِ اللاّمعةِ تجرُّها الشّفاه قبْلَ الأصَابعِ بالقُبول والرِضا التام… كانَ ذلكَ منْذُ أيامِ الدراسةِ الأُولى في قَاعَاتِ المدارس ، وحَتّى درجاتِ الوظيفةِ في دوائر الإدارةِ ، زادُه الارتقاءُ في السّلم الوَظيفي وجاهةً فوقَ وجاهةٍ .

أفتتنَ في البدايةِ قليلاً بهذا المَكْتب الفخْم ، وأحَسّ بالمُساعدين يُحيطونُه من  كل جانبٍ ، يتقَرّبُون إليه بِخَفْرِ العَرُوسِ بأنواعِ مِنْ التقرُّب ، يمْشُون إليه على رؤوسِ أصابِعِهم ، ويتوَسّلون إليه دونَ أن يرْفَعوا رؤوسُهم قليلاً ، حتّى تغيّرتْ الدُّنيا في ناظرِيه رويداً رويداً ، ورأى في نفْسِه السيّد المُطاع والمُهاب الجَانبِ ، وقد ألِف كثيراً مَنْ يُقدم اليه عذْبَ الحديثِ ، وحلاوةَ الإطراءِ ، فَيرفعُ إليه أسْمى كلمات التهانيِ والأمنياتِ في مناسبةٍ ودونَ مناسبةٍ ، وتيقنَ أنّ ذلك التحَبُب مِن قِبْلِ غيرِه ، لم يكُن إلاّ بسببِ من ثراءِ مواهبِه ونُبل صفاته وقوة شخصيته ، وأيضا أخْلاقه العَالية … فوطّنَ في نفسه أنه قادر على كل شيء ، ومُتَميز في كلّ شىء ، وليْسَ من نَصيب هؤلاءِ إلاّ الذيُول أو الرِّضا ، وكانَ كثيراً ما يُسْخِطَهم ، لأنّهُ ينْكر عليْهم وسائلَ الذُّبَابِ في التَقرُّب  إليه ، ويَزيدهم ذلكَ هِمّةً غريبةً في اختراعِ  المزيدِ  مِنْ  أسبابِ نيْل الحظوةِ لديه من جديدٍ .

أغلقَ رتاجَه على هؤلاءِ ، وأحْكمَ أبوابَه عن سَمَاعِ الجوْقةِ اليومية المكرورة ، حتَّى جاء يومُ ، قِيل لهُ أنّ هناكَ سيّدةٍ في البابِ تلحُّ على المقابلةِ والدخولِ إلى معاليِه ، سيّدةٌ أنيقةٌ مترعةٌ بالقبولِ والجَمَالِ ، بِصُحْبتها طفلةٌ صغيرةٌ كنجْمة الصّباح  ، أعتذر السيٌدُ الأنيقُ  في البدايةِ لِعدم الموْعِد المُسْبِق … قالتْ : إنّ في الأمْرِ عَجلةٌ ، لا يَتِطلبُ مواعيدَ مُجَدْولةٍ ، دقيقةٌ من الزّمنِ كافيةٌ ، لا تأخذُ من العُمْرِ شيئاً ، ولا تُعَطّلُ مَصالحَ ومشاغلَ السيد الكبير ، أحَسَّ الحاجبُ بوجاهة الطلْبِ ، تلفن إلى السيّد ، وعاودَه في شأن المقابلةِ ، ولو لدقيقةٍ واحدةٍ فقط ، كان ردّة بالسلْب لأنّه مشغولُ ، وعليْها أن تأخذَ دوْرَها في جَدْوَلِ المواعيدِ ، سَمِعت السيّدةُ العبارةَ الأخيرةَ عبر جهاز الإنصات ، انتفضَ فِيها شيءُ مُلْتَهِبُ قديمُ ، غامتْ الدُنّيا مِنْ حَوْلِها صارتْ كُرَةُ من النّار مُنْدَفِعةً صوْبِ البابِ ، اقتحمتْ البابَ بقَدَمِها ، واندفعتْ داخلَ المكْتبِ ، تترقبُ مكْمنَه الغائصَ في الكُرسّي المُتَحركِ حتَّى أذنيِه ، تسمّر من المفاجئةِ ، تعطّل ذِهْنُه لحظةً ، وجَفّ الدمُّ في عروقِه ، وانسحب إلى أخْمص قدمية  ، صارَ كتمثالٍ من المرْمرِ الناشّف الذي لوحَتّه الشّمْسُ ، تم خرَّ مغْشياً عليْه ، على أثَرِ جِلْبةٍ كبيرةٍ في مكْتبِهِ ، وصِيَاحِ بعض معاونيِهِ ، وكلماتٍ قويةِ  انْطَلَقتْ مِنْ فَوْهة حُنْجَرةٍ  دوت كالرصاص  ، احتوتْ أركانَ المكْتبِ :
ـــ     لقد حَطَمّتَنَي . . . حَطْمّتنَي… يا  وغد ، يوم أن خَدعْتني ، وتَركْتَنَي أُواجه العالمَ
وَحْديّ  بِجَداولِ مواعيدِكَ الفارغةِ .

________

* كاتب وأديب  من ليبيا

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *