*سعيدة تاقي
قبل البدء:
ليس على النقد أن يدعي إمكان اختلاس النظر التحليلي إلى النص الأدبي، دون أن يكون الوقوع في أسر الغواية أمراً وارداً. فالكتابة النقدية محكومةٌ بدورها هي الأخرى منذ لحظة التصفُّح الأوّلي بممارسة المتعة بكامل إرادة القارئ النّاقد، و موكولةٌ منذ استكشاف الجملة الافتتاحية إلى الانتشاء بمكامن الجدة و الاختراق. لكن لحظة الانبهار أو الاندهاش لا تمتلك باسم النقد الاكتفاءَ الذاتي الكفيل بإنتاج القراءة النقدية الرصينة.
مـرايـا القـراءة العاشقة:
لاشك أن الشغف العميق الذي يواكب درب ارتياد القراءة يظل حافزَ كل قارئ في حرصه الكبير على مصاحبة الأدب و متابعة جديد الإبداع. و يظل الشغف السبيلَ الأوحد لمواصلة الاقـتـيات على النصوص الإبـداعية و المؤلّفات الأدبـيـة بنهـم و سلام متدفِّـقَـيْـن. و لذلك ليس بإمكان قارئ الأدب ادعاء إلغاء كل نزوع ذاتي عفوي لصالح موضوعيةٍ تميِّز العلوم، لأن الأدب لا ينشغل بالمادة أو بالموضوع إلا في سياق انشغاله بالذات، بل إن الاحتفاء بالعمق الإنساني كان دوما (و سيبقى) الموضوع الأثير للأدب.
لكن لا يمكن للقارئ الناقد أن ينغلق على المتن الإبداعي باسم المتعة الفريدة التي يتيحُها الحيّز النصي المكتوب، كي يقتَرِحَ كتابة النص الأدبي من جديد بلغةٍ تفارق الإغراق في النسْغَ الإبداعي، لتحيط بابتكارات النص أو لتضبطَ على سلّم التردّادات ذاتها إيقاع اخـتلافه و تميّزه. فالنقد لا يمكنه أن يعيد كتابة النص الأدبي بلغة إبداعية ثانية، حتى و إن تخفَّـفـتْ من كثافة الإبداع لترصُد مواطِنه في النص المقروء.
إن القراءة العاشقة وصلةٌ أولى تعانِق النص بلهفة و إعجاب بحكم استسلامها الكلِّي لسطوتي الشغف و الانبهار، مما يدفعُها في غالب الأحيان إلى إنتاج خطاب تقريظي لا يتجشَّم من أعـبـاء النقـد الموضوعي حرفاً واحداً، و لا يكلِّف نفسه عناء الانضباط للغة النقدية بمقولاتها الواصفة أو بمفاهيمها التقييمية.
لكن النقد و هو يقرأ الأدب، يتجاوز الوصلة الأولى العاشقة ليحاول أن يرى النص الأدبي من منظور آخر مختَلف، يفارق فيه الرّائي ركن المتذِّوق الغافل عن وصفاتِ الكتابة و محتَرَفاتِ الإبداع، و ينحو إلى روائز الكشف الحصيف و الفحص الدقيق، تلك الروائز التي تستقوي بالرؤية الفكرية و الخبرة بالأدوات النقدية. لأجل ذلك كله الناقد ليس قارئاً عاشقاً للنص، و ليس مقبولاً ممن يسم ذاته بوسم “الناقد” أن ينتِج قراءة نقدية عاشقة للنص المقروء، تسْبح في ملكوت الإبداع و تحلِّق مع أطياف الشعر و تتغـنّى بسحر المجاز.
في معـتَرَك النـقـد:
يورد المعجـم الوسـيط في معنى”نَـقَـدَ”: نَقَـدَ الشيءَ نَقْداً: نقره ليختبره، أو ليميّز جيِّده من رديـئـه… يقال: نقَد النثْرَ و نقد الشِّعْر: أظهر ما فيهما من عيْب أو حُسْن… و نقَد الشيءَ و إليه ببصره نُقُوداً: اختلس النَّظَر نحوه حتى لا يُفْطَنَ له… و نقَد فلاناً الثمنَ، و نقَد له الثمـن: أعـطاه إيّاه نَقْداً مُعَجَّـلاً. و (نَقِدَ) الشيءُ نَقَداً: وقـع فيه الفـسـاد. يقـال: نَقِدَ الضِّرْسُ أو القَرْنُ: تأكَّل و تكسَّر… و يقال: انتقد الشِّعْر على قائله: أظهر عَيْبَه.
قد تكون العودة إلى المداخل المعجمية غير ذات تأثير، في زمن اختط فيه النقد لمفاهيمه أكثر من تمثيل، و شيَّد لمقولاته أكثر من نسق. فالنقد سعى في عصور عديدة و عبر مـدارس و مشارب و منظـورات متـعددة إلى الانفـتاح على قابلية التغُّير و إمكان إعادة التشيـيد و احتمال القطيعة و حرية الارتحال. لكن اللـغـة بأصل وجودها قد حدَّدت الكـلـمات و وسَمتْ الأشياء. و اختارت للصور الذهنية، مواضعَةً مثلما رأى ابن جني أو توقـيـفاً مثلما رأى أبو الحسين أحمد بن فارس، الصورَ اللفظية التي ستغـتـني بالتصويـت عن الـمرجـع، و تقرِن بالتسمية بين المصطلح و المفهوم.
و هكذا فإن النقد الأدبي، في ضوء المداخل المعجمية المعروضة آنفاً، يسعى إلى تمييز جيّد العمل الأدبي من رديئه و اختبار صحيحه من زائفه. و النَاقد يـنظـر إلى العمل الأدبي ليختبر حسـنه و عـيـبه. و تلك معانٍ لها مستـوياتُ تحقُّـق تحليلي تقتضي المعرفة و الخبـرة و الاخـتصاص. و تستلزم مِراساً يفوق ما قد يخولُّه فعلُ الكتابة الإبداعية للذاتِ المُبدِعة الكاتبةِ من معرفة بأسئلة الكتابة الحميمة. و لا يُعتد هنا بالتمييز بين الرُّتب أو بالتفضيل بين المَراتب. فالإبداع سـابق بالقوة و الوجود على النقد، بيد أن النـقـد كاشـف لخواص الإبـداع و ظواهره و بواطنه. و مثلما يحفِّز النص الأدبي النقـدَ على تجديد أدواته و أنساقه استيعاباً لتحرُّر الإبداع ـ في تحقيقه للحياة و للاستمرارية و للخلود ـ من كل ضوابط قبْـلية أو رواسم جاهزة. فإن قدرة النقد على الكشف و الروز و الحفر و الاستجلاء، تمكِّنه من استشراف الكون الإبداعي و استكناه أبعاده الخفية، و تمكِّنه من استدعاء فعل الكتابة الإبداعية إلى أمداء لم تكن قادرة، دون هداية النقد، إلى إدراكها أو تحقيقها.
مُخـتـبَـر الرواية: