*لانا المجالي
(1)
_________
في مقطع من (الضوء الأزرق)؛ رائعة حسين البرغوثي، يقول: (…أمسكَ بكرة تنس صغيرة، وأمرني أن أعيدها إليه، فقذفتُها نحوه ثانية؛ هذا يدعى اتصال بين النّاس؛ الكلام كالكرة، عندما لا ترجعه ينقطع اللعب).
كنتُ كلما قرأت هذا المقطع أهزُّ رأسي موافقة، لكنني عندما عدت إليه مؤخرا، أدركتُ أنّ مبادئ وأخلاقيات اللعب –في ظل ثورة الاتصالات المتسارعة- تغيّرت إلى درجة أنّ أبواب ذواتنا تنازلت قسرا عن مفاتيحها، ولم يعد من المستهجن أن يجتاحنا العالم في أكثر لحظات حياتنا حميميّة.
(2)
___________
لا أخطط لمناقشة قضية الاتصال “المفتوح على مصراعيه”،أو “الجغرافيات الحزينة للحدود الإنسانية” عند الشاعر الفرنسي بول إيلوار، لكن للحديث شجون كما تعلمون، ويبدو أن شبح هذا الاجتياح ينتابني كلما فكرتُ في أهميّة الاتصال الداخلي على المستوى الفردي وطبيعة العلاقة التي تربطه بالإبداع؛ بوصفه تجاوزا للذات والزمان والمكان، وأقصد هنا الإبداع الإنتاجي –الفني والعلمي-عموما، و”إبداع الذات” خصوصا؛ ذاك الذي يختبر فيه الإنسان تلك الرحلة الشاقة من الحوار الذاتي والتأمّل ليصل إلى السلام النفسي والروحي، أو كما هو عند الفيلسوف الألماني آرثر شوبنهاور: “لكي نصل إلى ماهية الأشياء، يجب ألا نبدأ من الخارج، فإننا إن فعلنا بحثنا كثيرا دون أن نصل إلا إلى أشباح أو صيغ، وسنكون أشبه بمن يدور حول قصر باحثا عن مدخله، فإذا لم يجده رسم واجهته…”.
وتكاد لا تخلو “سورة” في القرآن الكريم من التذكير بضرورة التفكّر والتأمّل في (أنفسكم/الكون)، كذلك الأمر في الإسلام عموما والتصوّف الإسلامي خصوصا بأكثر من صيغة منذ “وفيك انطوى العالم الأكبر”، أو كما في المسيحيّة ” إنّ ملكوت الله في داخلكم”.
الفكرة ذاتها عند الزاهد الصيني لاو-تسو في كتاب (التاو /ترجمة وتعليق فراس السواح)، إذ يقول إن “في معرفة الذات بصيرة”، أو “من غير أن تسافر بعيدا، تستطيع أن تعرف العالم كله. من غير أن تنظر من النافذة، تستطيع أن ترى طريق السّماء”، ويورد أيضا حكايات كثيرة، أذكر منها:
( زار المريد دايجو المعلم باسو في الصين، وجرت بينهما الحوارية التالية:
– ما الذي تبحث عنه يا دايجو؟
– أبحث عن الاستنارة أيها المعلّم؟
– افتح خزنة كنوزك وانظر ما بداخلها، لماذا تبحث في الخارج؟
– ولكن أين خزنة كنوزي؟
– ما تبحث عنه هو خزنة كنوزك، إنها في داخلك.)
حيث أن “التاوية” تنطلق من ثقتها بالطبيعة الإنسانية، لتساعد الإنسان على اكتشاف طبيعته الحقيقية، على عكس ما جاءت به “الكونفوشية”-الصينيّة أيضا- من مبادئ ولوائح أخلاقية لضبط سلوك الأفراد والجماعات.
الأمثلة كثيرة في جميع الأديان والثقافات، ونحن لن نتوقف عندها، لأنّ أسئلة شائكة بانتظارنا من نوع: هل الاتصال على المستوى الداخلي الفردي ضرورة إبداعيّة؟، هل الإبداع ضرورة حياتيّة؟ هل يعيش بعضنا ويموت دون أن يبدع ذاته على الأقل!؟.
لا أملك إجابات. لن أملكها يوما، ولا أحد يملكها لأنها نسبيّة ، لكنني أملك إيمانا مطلقا بجدوى التساؤل والتفكير بصوت مرتفع والقراءة على ملأ، لذا دعونا نستكشف معا ما يطلق عليه “حدود الإبداع” بشكل موجز لأنها –ربما- تنير بعض جوانب تلك الأسئلة المؤرقة، وسأعتمد كتاب “سيكولوجيا القهر والإبداع” / عن دار الفارابي للدكتور ماجد إبراهيم موريس، نظرا لتشعّب مراجعه البحثيّة، آملة أن أتمكن من العودة إليه في قراءة مستقلّة ذات يوم.
(3)
________________
لو عدنا إلى المثال الإبداعي الأول؛ أي بدايات نشوء الحضارة، سنرى أن الإنسان لم يكن يبدع من فراغ، بل من واقع تشكّل معطياته الطبيعيّة والمعنويّة التي تتحدى قدراته ما يدفعه إلى إعمال وعيه وإرادته، فالإنسان المصري، مثلا، أبدع في مجال الطب والجراحة واخترع فكرة “الخلود” وما رافقها من مظاهر؛ بسبب خوفه من الموت، فيما ركّز الإنسان في بلاد الرافدين على قراءة الطالع والنجوم والأفلاك بسبب خوفه من المجهول.
عموما، العلاقة ليست سببيّة مباشرة كما يبدو من الأمثلة، بل مركّبة جدا، فهناك تحديات داخلية تواجه المجتمعات أولا، والإنسان الفرد ثانيا ما يدفعه إلى محاولة الهروب من إسارها، وهي ما يطلق عليها “حدود القهر” وتتضمن الذات والزمان والمكان، ونحن، ضمن هذا المعنى نستطيع تعريف الإبداع بأنّه “تجاوز لقهر الذات لأنه إخراج ذات من ذات، وتجاوز لقهر المكان لأنه ينطوي على بزوغ موضوع جديد بذاته يغيّر من كثافة المكان، وتجاوز لقهر الزمان لأنه امتداد عمر يبدأ بلحظة الميلاد الإبداعي”، مع الأخذ بعين الاعتبار الملاحظات التالية:
أولا: “ذات “الإنسان بلغة “فرويد” هي الـ” أنا”، وتتجلى في حكمه على الأشياء والأشخاص والمواقف، وفي طبيعة علاقته بالواقع وتعامله مع الأضداد والتنافرات، لكي تكوّن-الذات- كلّا واحدا متجانسا لا يلفظ بعضه بعضا، خصوصا أنّ نهر”الذات” ليس من صنعنا فقط، لأنّ بعضه موروث إضافة إلى الروافد التي يستقبلها من بيئته، ما يجعلنا نتساءل عن مدى تلقائيّة المخ وحريته المجردة في اتخاذ القرار، أو عن تطور علاقتنا بذاتنا!، ونحن في هذين المثالين نشير إلى “إبداع الذات”، مع التنبيه على ما وصفه الكتاب بـ”العلاقة المضطربة والعكسية التي تربط بين إبداع الذات والإبداع الإنتاجي الفني”.
ثانيا: أربع وظائف على الإنسان الفرد أن يؤديها بكفاءة حتى يدرك ذاته، وتتضمن: أن يميّز بين ما هو شخصي في مقابل ما هو غير شخصي، وأن يدرك وحدة ذاته وعدم تشتتها، واستمراريته في الزمان، والإحساس بنشاطه، وأي خلل في هذه الوظائف قد يتمخض عنه ظاهرة نفسيّة يطلق عليها اسم “فقدان الذات”؛ وهي حالة يشكو فيها الفرد من أنه لم يعد ممتلكا لذاته وأنه أصبح آلة ميكانيكية تلقائيّة التسيير، فلا يشعر باللذة أو الأسى أو الحزن أو الفرح، وقد يفقد في مرحلة متقدمة مدركاته الجسدية فلا يشعر بالجوع أو العطش، ويفقد قدرته على التصوّر والتذكّر، وهو أيضا لا يستطيع إدراك إنجازاته ولا يعتبر أنها نابعة من ذاته، أمّا الوجه الآخر لنفس الحالة فهو تعاظم الإحساس بالذات “النرجسيّة” بحيث يرى الإنسان نفسه مركزا للكون.
ثالثا: إدراك ذواتنا غير منفصل عن إحساسنا بأجسادنا، وكما للجسد حدوده الملموسة والمرئيّة، فإنّ الذات أيضا تتميز بوجود حدود افتراضيّة تشكّل علاقتها مع العالم الخارجي؛ وحدّ الذات ليس حاجزا بالمعنى المتعارف عليه، لكنّه أشبه ما يكون بعملية ديالكتيكية مثل جدار الخليّة الحيّة، وتلعب كميّة النفاذيّة (منه/ إليه) علاقتنا بالعالم الخارجي وذواتنا، إذ أن المبالغة في النفاذيّة تصل بالإنسان إلى الضياع المؤكد، حيث يشعر تارة بمدى تأثير الآخر فيه وعليه، في حالة يسميها الأطباء النفسيون “الظاهرة السلبيّة” أو “الاستسلاميّة، وتارة أخرى يمر بحالة من الشعور بالتبعثر أو التلاشي حتى العدم.
وفي الاتجاه المعاكس، يدفع التمادي والتطرف في كثافة الحدود الذاتيّة بالإنسان إلى مكان هامشي على مسرح الحياة في المجتمع، ويتحول إلى شخص متقوقع على ذاته وغير مرغوب فيه.
رابعا: يتحدث “فرويد” عن ظاهرة خطيرة جدا، أطلق عليها اسم التخلخل؛ حيث يفترض أننا معزولون عن أجزاء من ذواتنا، وعن بعض الزوايا في الخبرات والوجدان أو في الرغبات والدوافع. معزولون عن أخاديد مؤلمة عميقة في ثنايا حياتنا حيث تنفصل كل هذه الحالات عن وعينا الشخصي، وأضيف أن بعض هؤلاء الأشخاص يهربون إلى خارج أنفسهم؛ خوفا من التواصل مع ذواتهم.
خامسا: علاقة الإنسان بالبيئة المحيطة-المكان- هي امتداد لعلاقته مع نفسه، باعتبار أن النفس هي أولى حلقات البيئة الإنسانية، ويحدث أن يفرض البشر الـ”نحن”/المجتمع سطوتهم على الفرد الـ”أنا” المبدع، باستخدام آليات العرف والتقاليد والتصنيف الاجتماعي أو الاقتصادي أو الإيديولوجي المسبق، كما تأتي آلية اللغة- اللغة الإبداعية مثل المفردات/ الموسيقى/ اللون/ الرقص/حركات الجسم التعبيرية…الخ- التي تعبر بشكل أو بآخر عن طبيعة العلاقة بين الإنسان والمكان والتي بقدر ما هي منتزعة منه عائدة إليه. قد تكون منصاعة تقليدية أو ثائرة مبشرة.
سادسا: الزمن يقهر الإنسان ببعده الطولي من الأزل إلى الأبد ولكن الإنسان يقهر الزمان بالإبداع؛ باللحظات والخبرات البزوغية التي يحطم فيها التواتر أو الإيقاع الرتيب، فيما قد نطلق عليه “الزمان الذاتي”.
(4)
_________________
كلّ ما أخشاه الآن، هو هذا التشابك بين دعوتي “الخجولة” لتخصيص فسحة للتواصل الداخلي على المستوى الفردي وبين أخرى لا يمكن أن أقصدها هي “الانعزال”، وأحسب أن القارئ الدقيق لاحظ الفرق، خصوصا عند توضيح مفهوم “نفاذيّة” حد الذات، كذلك الأمر عند مراجعة بعض الحالات النفسيّة المرضيّة في التلخيص أعلاه، كخيط رفيع بين التمادي والانكماش.
ولا بد من التأكيد، على أن مفهوم “المعرفة الداخلية كأساس لمعرفة الكون/ أو الإبداع” الذي دعوت إليه هنا لا يشبه بأي حال من الأحوال المعرفة عند الذات (العارفة) في “التصوف الإسلامي”- إلا لو تجاوزناه وتحدثنا عن “التصوّف الإنساني”!-، فالمعرفة الداخلية التي أقصدها هي مجرد مادة أوليّة علينا أن نفهمها قبل أن نفهم الكون، الأمر يشبه تماما ما نطلق عليه “المتطلب السابق” في الجامعات.
وأخيرا، نحن نحتاج إلى الإبداع حتى ننهض –إنسانيّا على الأقل!-، ولن نقفز تلك القفزة، على المستوى المجتمعي أو الفردي، إلا لو تجاوزنا خطر الاحتواء في الآخر، لأنه يهدد نموّنا وتمايزنا، على أن لا نفقد تواصلنا معه. هذا هو كل ما في الأمر؛ أن أشير إلى ذاك الخيط، هل تعرفه؟.. الخيط العميق.
_______
*الجسرة الثقافية