أب بعيد

خاص- ثقافات

*انطونيو سكارميتا / **ترجمة: مأمون الزائدي

الأول

 أنا ناظر مدرسة القرية.  أعيش بالقرب من مطحنة. تغطي الرياح وجهي أحيانا بالطحين.

 ساقاي طويلتان ، وقد وسمت ليال من الأرق  حلقات داكنة تحت عيني.

 حياتي  مكونة من عناصر فلاحية ، أشياء ريفية :   عويل الموت الصادر من القطار المحلي، تفاح فصل الشتاء، والندى على  ثمار الليمون  حين يلامسها صقيع  الصباح الباكر، العنكبوت الصبور في زاوية غامضة من زوايا غرفتي، والنسيم الذي يحّرك ستائري .

 خلال النهار، تغسل والدتي ملاءات لا تحصى، وفي المساء نشرب بلسم الليمون بالشاي ونستمع إلى مسرحيات إذاعية حتى تتشوش الموجة وتضيع بين عشرات المحطات الأرجنتينية التى تتحاشد  في الليل.

 الثاني

 قريتي، كونتيولمو، أصغر من البلدة المجاورة  ترييان Traiguén. وقبل الذهاب إلى العاصمة للحصول على شهادتي في التعليم، انتهيت من المدرسة الثانوية في انغول ، وهي بلدة أكبر بكثير من ترييان. بينما كنت هناك، تم تشخيص إصابتي بفقر الدم الحاد، الذي سارع الأطباء في علاجه بوصف مستحلب سكوت و إعطائي حقن  مقوية من زيت كبد السمك في ذراعي.

 جعلتني ممرضة في المستشفى أشرع  في  نقيصة تدخين السجائر الرخيصة، ومن أجل دعم هذه العادة –  والتي آلت لاصابتي بإلتهاب القصبات- كان على إيجاد وظيفة ثانية.

 كان العمل متواضعا جدا وغير منتظم . مرة واحدة في الأسبوع، تأتي شاحنة لتنقل الشراشف التي تغسلها أمي إلى فندق في انغول ، بينما  أودِع السائق بعض التراجم  لقصائد  فرنسية كان رئيس تحرير صحيفة انغول ينشرها في ملحق الأحد.

 والدي فرنسي. رجع  إلى باريس قبل عام، عندما عدت إلى كونتيولمو بعد الانتهاء من دراستي في كلية المعلمين.

 نزلت من القطار فيما صعد هو .

 قبّل خدي بحرقة . كانت أمي على المنصة أيضا، تلبس الحداد. عودتي إلى المنزل لم تعوضها أبدا عن غياب والدي. فقد كان يغني لها أغان فرنسية  ” سأنتظر “[1]  . “اوراق الخريف ” [2]”، و”هذا أمر جيد”[3]

 وإلى جانب ذلك، كان يعرف كيفية خبز رغيف الخبز المقرمش، الباغيتس، الذي كان يختلف عن الكعك المحلي والخبز الناعم. كما أنه اعتاد  جلب الليمون والبرتقال إلى السوق. وكل يوم كان يمر بالمطحنة ليحصل على بعض الدقيق، وكان ذلك كيف أصبح  ومالك المطحنة من الأصدقاء. عندما غادرنا  أبي، لم أكن قادرا على  إظهار مهارته في خبز الباغيتس ، ولكني  واصلت صداقته مع الطحان.

 إنه يعرف أبي  اكثر مما أعرفه بنفسي.

 إنه يعرف أبي أكثر مما قد تعرفه أمي .

 ثلاثة

 عندما ذهب أبي بعيدا، انطفأت والدتي فجأة، مثل شمعة في مهب عصفة من زمهرير .

 و مثلها، أحببت والدي إلى حد الجنون. وأنا أيضا أردته أن يحبني بالمقابل . لكنه كان قد مضى بعيدا . عاد إلى وطنه ، كان قد كتب  رسائل ليلا على آلة الطباعة رامنغتون القديمة خاصتي  وتركها مكومة على الطاولة  لأقوم بتسليمها حين تأتي الشاحنة لتنقل الملاءات . كانت رسائل إلى أصدقائه كما قال: ” أصدقائي القدامى .”

 في بعض الأحيان، عندما نكون نشرب البراندي ، يفلت الطحان بعض المعلومات، ولذا فإنني دائما أستمع له باهتمام كبير. ولكن مساربه لا تؤدي إلى أي مكان. إنه يبقي الأمور هادئة بالحديث عنها. أو بالأحرى، يتحدث عن الأمور بينما يبقيها ساكنة . كما لو كان على ميثاق سري مع والدي. أو عهد موثق بالدم .

 عندما قرر بيير تركنا ، وكنت على وشك التخرج من كلية المعلمين في سانتياغو. أسبوعا يسبق وصولي إلى كونتيولمو، و شهادة تعليم المرحلة الابتدائية  في حوزتي ،قال  لوالدتي إن المناخ البارد في جنوب تشيلي  صدّع عظامه، وإن السفينة في انتظاره في الميناء في فالبارايسو.

 نزلت من القطار وصعد هو ، صعد إلى نفس العربة .

 في جنوب تشيلي، لا زالت القطارات تتجشأ الدخان.

ماكان ينبغي لوالدي أن يغادر في نفس الليلة التي وصلت فيها . لم أحصل حتى على فرصة  أن أفتح حقيبتي وأريه دبلومتي . كلينا ، أنا وأمي انتحبنا معاً .

 أربعة

 النصوص التي  أترجمها  بسيطة. أشياء يمكن أن يفهمها الناس هنا. قصائد رينيه غي كادو[4] . قصائد قروية ، ليست كاتدرائيات من الكلمات. وعلى النقيض من ذلك، فإن صحافة سانتياغو تنشر قصائد ضخمة، قصائد محفورة  في الرخام، غنية بالإشارات إلى اليونان القديمة وروما وبالتأملات عن الخلود في  الجمال. في سانتياغو ،تطبع صحيفة إلميركوريو[5]  هذه القصائد مع رسوم  لباريس وروما. و فيما يلي النص، بين قوسين، يظهر اسم المترجم.

 هنا في المحافظات، ليس الجمال خالدا أبدا.

أرفق أحيانا  بعضا من قصائدي في مغلف مع ترجمتي وأطلب من المحرر النظر في نشرها. يكون رده، على الرغم من سلبيته، ممتازا باللباقة، نظرا لأنه لم يرفض قصائدي  أبدا ولم ينشرها  كذلك .

 خمسة

 الشهر الأول من غياب والدي  قتل والدتي تقريبا . فهي لم تتجاوز أبدا ذلك  بصورة تامة .  كانت مجرد فترة نقاهة. عندما حصلتُ على وظيفة للتدريس في  مدرسة غابرييلا ميسترال الابتدائية، نشطت  قليلا. وكان هناك  أثر من الفرح في موافقتها، لأن وظيفتي الجديدة تعني أنني لن أتخلى عن القرية مثل أولاد المابوتشي الذين غادروا وانتهى بهم الأمر لعجن العجين في مخابز سانتياغو.

 لم تصلنا  أي رسائل من أبي. وهذا لا يعني أنه لم يرسل لنا  أيا منها . بل المسألة  هي ،  أن سعاة البريد لا يأتون  إلى هذه القرى، والطلب من سائق الشاحنة الاستفسار في مكتب البريد بانغول ما إذا كان هناك أي بريد لها سيجرح كبرياء والدتي.

 إنها حقا تمطر كثيرا هنا.  أعاني البرد باستمرار. في اليوم العادي، أقوم بتدريس الأطفال  الأدب والتاريخ، وبعد المدرسة كنت  أحصد البطاطس والليمون، والبرتقال، اعتمادا على الموسم.

 والآن مرة أخرى، أنا أملأ بضعة سلال  بالتفاح وأحضر الطحين من المطحنة. كريستيان شارب دؤوب للنبيذ الأحمر،تلوث مريلته بشكل أبدي  بقع أرجوانية اللون. دائما ما يقدم لي كوباً ، ولكني أرفض باستمرار . فشرب الكحول يجعلني حزينا.

 وعلى الرغم من أنني حزين دائما تقريبا، فالنبيذ يجعلني حزينا بطريقة مختلفة. كما لو شوقا عميقا جدا يندس فجأة في عروقي.

 منذ ذهب أبي بعيدا ، تملكتني الرغبة في أن أموت.

=========

[1]. https://www.youtube.com/watch?v=sESscgk-qzE

[2] https://www.youtube.com/watch?v=JWfsp8kwJto

[3] https://www.youtube.com/watch?v=6BvL-i–8Ws

[4] شاعر فرنسي من مواليد 1920 تميزه شعره بالمشاهد الريفية .عضو فى حركة روكفورت الشعرية.

[5] صحيفة عطارد :صحيفة تشيلية يومية تأسست سنة 1900 اتجاهها السياسي يميني متحفظ

________
*الفصول الأولى لرواية ( أب بعيد ) لانطونيو سكارميتا مؤلف الرواية الشهيرة أل بوستينو او ساعي بريد نيرودا .

** قاص ومترجم ليبي

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *