حال الثقافة… حال الحياة

*إبراهيم صموئيل

مذ كانت الثقافة كانت المعارك الثقافية. هذا جزء من الحياة الثقافية في أي بلد, وجزء من الحياة عامة. ورغم اسمها المنفر ربما أسهمت إسهاما كبيرا في تحريك المياه, وتقليب أوجه الأفكار, وإغناء رؤى المتابعين, بل وتجديد وجهات نظر المتعارضين أنفسهم.

في الثلاثينيات والأربعينيات, وصولا إلى السبعينيات, المعارك الثقافية التي قرأنا عنها, أو الأخرى التي شهدنا وقائعها وصراعاتها؛ كانت الأفكار والمذاهب والاتجاهات والمدارس الثقافية هي محاور تلك المعارك بين كبار الكتاب والمثقفين آنذاك, كالشعر العمودي القديم والشعر الحرّ الحديث, أو كفن القصة القصيرة الوليد والرواية المعروفة المتداولة, أو كالواقعية الاشتراكية والالتزام في الأدب والفن, وعما إذا كان الفن للفن أم الفن للمجتمع.. وغير ذلك الكثير.

خلال العقود القليلة الأخيرة, يمكننا ملاحظة أن المعارك “الثقافيّة” على صفحات الجرائد والمجلات والمواقع الإلكترونية تشبه المعارك بين الأزواج والزوجات؛ إذ توجه اتهامات وإدانات, وإيراد وقائع وسلوكيات حدثت وانحصرت بين الطرفين أو الأطراف المتنازعة, من دون أن يعرف القراء حقيقة ما يُقال ويُكال من البعض ضد البعض الآخر.

الطلقة الأولى التي تعلن الحرب تلفت الأنظار. لكن متابعة الوقائع ومجريات الأحداث وملاحقة الحيثيات, التي تتضاءل ردا بعد رد, تنصب متاهة للقارئ, يحار في كيفية متابعة انعطافاتها ومنحنياتها ودهاليزها، ومَنْ عساه يُصدّق أو يُكذّب من الأطراف؛ ذلك أن معظم المنشور في الردود المتبادلة أمور شخصية جرت في هذا المنتدى، أو صالة العرض تلك، أو ذاك المقهى على نحو فردي وخاص, تُقدّم على أساس أنها بيّنات المعارك.

أذكر أنني تابعت, في ملحق ثقافي لصحيفة عربية ذائعة الصيت, معركة “ثقافية” نشبت بين عدد من الفنانين التشكيليين, وامتلأت بالردود وبردود الردود. ورغم معرفتي بالأطراف المتعاركة, استحال عليَّ التثبت من حقيقة الوقائع المذكورة, لأنها جرت على نحو شخصي وفردي, لا مرجعية لها سوى كلام المتعارضين المنشور.

ومما جاء في الاتهامات والردود لهذه المعركة “الثقافية” الاقتباسات الآتية: “كان فلان يقضي جلّ وقته عند محاسب الصالة بأكثر مما يقضيه عند مديرها”، و”أنت تقبض بالدولار”، و”الحسابات كانت السبب الأهم لانفصال الفنان الفلاني عن الصالة”، و”سعر لوحتي لم يتضاعف عشرات المرات كما حال لوحاتك”، و”لم أتبرع للجمعية الخيرية كونها غنية, وليس لأنها..”، و”فلان جاء بلوحاته إلى الصالة لعرضها..”، ويردّ فلان: “لا. صاحب الصالة هو الذي طلب مني العرض في الصالة”، وما شابه ذلك.

مشاجرة مجهولة

وبين أخذ وردّ، وردّ على الردّ، سيقف القارئ أمام مشاجرة مجهولة المعطيات، بل ولا تهمّه من بعيد أو قريب، إذ كل ما يعنيه أن يذهب إلى الصالة ويشاهد أعمالا فنية ثم يخرج بانطباعات وآراء عن المعروض فقط, على غرار علاقة القارئ مع نص الكتاب لا مع مشاكل وعلاقات وخفايا الكاتب.

أمّا إنْ كان صاحب هذه الصالة قد اتهم صاحب الصالة الأخرى، أو العكس، أو كان هذا الفنان قبض بالدولار أو بالعملة المحلية، أو كان يجلس عند المحاسب بأكثر مما عند المدير.. وغيرها من ترّهات, فإنها لا تعني القارئ المتابع قلامة ظفر.

وإلى ما سبق, يبقى سؤال وجيه فيما أرى؛ إذا شاء عدد من فنانين أو كتاب أو مثقفين أن يكيلوا الاتهامات بحق بعضهم البعض, فما مصلحة الصحيفة -وهي محترمة وليست استهلاكية- في أن تفتح صفحات ملحقها, وعلى مدار أسابيع, لتلك المشاجرات المتقنعة بأقنعة الثقافة والفن والأدب؟ هل باتت المعارك الثقافية تدور حول مهاترات على هذا النحو؟

الطريف أن عددا من القراء استعذبوا اللغو والثرثرة والمماحكة الشخصية، فبنوا على ظنونهم وتوقعاتهم وتخميناتهم مواقف وآراء، ثم انخرطوا في معارك لا تمت إلى الثقافة بصلة، واهمين -على غرار الفنانين المتعاركين- أنهم بذلك يخوضون حراكا ثقافيا، ويفعّلون مفردات الحياة الثقافية الساكنة، والحال أن الناتج لا يعدو مجرد مهاترات تهبط بالحياة الثقافية وتنأى عنها لتبقى اللوحة أو الكتاب أو المسرحية هي الأساس والمرجع.

بالطبع, هذه المعركة ليست سوى عينة من “معارك ثقافيّة” كثيرة جدا تجري تحت عناوين الثقافة والفن والأدب. غير أن السؤال الذي يطرح نفسه على نحو عام خارج هذه الواقعة بالذات: هل العلة في المتحاورين المختلفين أنفسهم؟ أم هي في حياتنا الثقافية نفسها؟ أم أن هذه الأخيرة لم يعد لها ما كان لها من وزن ومساحة وفاعلية إزاء ما يتوالى على حياتنا العامة, ويدهمها من كوارث وأزمات خانقة, مروعة, وخطيرة, أطاحت -في جملة ما أطاحت- بقدر كبير مما كان للحيوات الثقافية, في مراحل زمنية مختلفة من وزن وأهمية وفاعلية؟
_____
*الجزيرة.نت

شاهد أيضاً

في اليوم العالمي للشعر: كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !

(ثقافات) كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !  هذا ما قاله المكسيكيّ خُوسّيه بَاشِيكُو …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *