الكتابة المشتركة

*يوسف أبو لوز

تجربة الكتابة المشتركة لا تشكل ظاهرة أدبية في المحيط الثقافي العربي، ولا هي هاجس إبداعي عند الكثير من الكتّاب، فكل كاتب يُفضّل أن يكون له وحده مشروعه الأدبي؛ كي يحمل سماته هو وشخصيته وهواجسه الداخلية، ولذلك من الصعب أن يلتقي اثنان من الكتّاب على هواجس واحدة أو على طبيعة إبداعية واحدة، وإن حدث مثل هذا الالتقاء فإنه استثنائي وشديد الخصوصية، كما هو الحال في رواية «عالم بلا خرائط» التي كتبها معاً عبدالرحمن منيف، وجبرا إبراهيم جبرا، وبالفعل، يصعب التفريق بين فصل وفصل في الرواية، أو يصعب إرجاع هذا الفصل أو ذاك إلى منيف أو جبرا بشكل قطعي، أي أنها كتابة مشتركة (ذوّبت) تماماً اثنين في واحد، أو صَهَرت الرواية في نص واحد بلا ثقوب إن جازت العبارة، والمقصود بالثقوب هنا سهولة معرفة صاحب النص في الكتابة المشتركة من خلال الشخصية الأدبية لكل كاتب على حدة.

ولكن تجربة عبدالرحمن منيف، وجبرا إبراهيم جبرا هي استثناء أدبي أو روائي كما أسلفت، ومن النادر أن تنطبق على كاتبين آخرين ب(المهنية السردية) الموجودة في رواية «عالم بلا خرائط»، وقد يعود ذلك إلى سبب نفسي في تقديري الخاص، فالعلاقة بين منيف وجبرا كانت تحكمها ظروف ثقافية بالغة الخصوصية.. ظروف ثقافية وسياسية واجتماعية مشتركة قبل الكتابة المشتركة، أضف إلى ذلك التكوين النفسي المتشابه أو المشترك بين الكاتبين اللذين جمعتهما بيئة ثقافية خصيبة في عراق الخمسينات والستينات من القرن الماضي.. وربما من هنا جاءت هذه الاستثنائية الروائية في «عالم بلا خرائط».

هناك، بالطبع، مشتركات نفسية وثقافية ومرجعية بين بعض الكتاب، ولكن الوصول إلى قرار الكتابة المشتركة يظل دائماً محكوماً إلى لحظة غامضة، بل، معقدة وشديدة الخصوصية، إنها لحظة انبثاق تشبه لحظة انبثاق مفتتح قصيدة.

في الثمانينات من القرن الماضي انشغل الوسط الثقافي الأردني على مدى حوالي العام بالتجربة الشعرية المشتركة التي قام بها (وفي لحظة شديدة الخصوصية) ثلاثة شعراء: طاهر رياض، ويوسف عبدالعزيز، وزهير أبو شايب، فقد كتب هؤلاء الشعراء الثلاثة قصيدة مشتركة نجم بعد نشرها في إحدى الصحف الأردنية حراك ثقافي لم تشهد الساحة الثقافية في الأردن مثيلاً له حتى الآن، فقد استقطبت القصيدة الكثير من القراءات النقدية، وإلى جانب هذه القراءات شهد ذلك الوسط مداخلات ومقاربات تتصل بمفهوم الكتابة المشتركة نفسه من وجهات نظر عدة يتذكرها جيداً شعراء وكتّاب الثمانينات حتى اليوم.

لعلي، بعد ذلك، أصل بالقارئ الصديق إلى مفهوم آخر للكتابة المشتركة، وهي تجربة الكتابة عن مدينة البتراء الأثرية ذات الحجارة الوردية الواقعة في جنوبي الأردن، ففي مطلع تسعينات القرن العشرين جرى تعاون بين وزارة الشؤون الخارجية في فرنسا، وبين وزارة الآثار والسياحة في الأردن أثمر عن دعوة اثني عشر كاتباً نصفهم يكتب بالعربية، والنصف الآخر يكتب بالفرنسية، بحيث يكتب كل واحد منهم نصه الخاص به وبتوقيعه هو حول البتراء بعد تنظيم زيارة للكتّاب الاثني عشر للمدينة الحجرية، وبكلمة ثانية نحن أمام كتابة مشتركة، ولكنها ليست مشتركة في آن.. فالموضوع واحد وهو البتراء، ولكن لكل كاتب نصه الموقع باسمه، وبالفعل حضر الكتّاب إلى الأردن، وتم تنظيم رحلة لهم إلى البتراء، وأقاموا فيها، وولد بعد ذلك كتاب بعنوان «البتراء.. كلام الحجر» بأقلام كل من الكتّاب الاثني عشر: كلود أولييه، طاهر بن جلون، ميشيل بوتور، جان ماري لوكليزو، عبدالوهاب المؤدب، آن واد مينكوفسكي، جمال أبو حمدان، أدونيس، جبرا إبراهيم جبرا، عبدالسلام العجيلي، جمال الغيطاني، نبيل نعوم، الكتاب تجربة فريدة في السرديات، أو التأملات، أو كتابة الجماليات التي مصدر إلهامها الحجر، أو المدن الحجرية الأثرية في حجم تاريخية مدينة البتراء الأردنية.. ولكل كاتب حريته في الأسلوب، والتناول، واللغة، والاتكاء على الأسطورة، والنهل من التاريخ.
____
*الخليج

شاهد أيضاً

فرويد وصوفيا في جلسة خاصة

(ثقافات) فرويد وصوفيا في جلسة خاصة د. صحر أنور جلس سيجموند فرويد أمامها ينظر إلى …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *