تضع الرواية الشعرية اللغة في مقدمة اهتمامات السرد الروائي، متجاوزة الحذر الذي يبديه الروائيون تجاه شعرية اللغة، متقدمة بجرأة نحو عالم تمتزج فيه اللغة الشائعة بلغة المعاجم العربية. ويبدو الأمر كما لو أن الروائي عازف على أكثر من آلة موسيقية، يمازج بين صوت عود وكمان، ويلجأ أحياناً إلى بث إيقاعات تصدر عن بيانو أو آلة قانون. وينتظم كل هذا وفق مقام من المقامات الموسيقية، ويتدرج أحياناً منتقلاً من مقام إلى آخر.
في ضوء هذا سننظر في معمار رواية تدور أحداثها في مدينة ساحلية، وفوق أمواج البحر، رواية للكاتبة «فوزية شويش السالم» حملت اسم «النواخذة» مارست صاحبتها كتابة الشعر والمسرحيات، ولم تضع حدوداً بين هذا النوع الأدبي أو ذاك. تقول حين تسألها: لا أعرف كيف يتشكل النص وبأي اتجاه؛ إنه يأخذني كما لو أنني أتلقى وحياً ولا أملك إلا الإصغاء؛ إنني أصغي إلى أصوات أناس تأتي إلي من هنا وهناك، أناس يطالبونني ويلحون عليّ أن أجسّدهم.
معنى هذا أنها تعتبر اللغة غاية بحد ذاتها، وليست مجرد أداة توصيل، والنص لوحة تتشكل من أصداء مجهولة المصدر. المهم أن الألفاظ تظهر نضرة كما لو كانت سمكاً نصطاده، فيظل يتحرك وينبض بيد الكاتب والقارئ. وهكذا لا تكتسب الأحداث أهمية كبرى، إلا بمقدار ما يكشف الاستخدام اللغوي عن هذه الأهمية، وبقدر ما يمنحها صوراً متعالية على اليومي والعابر. حتى ليخيل إلى القارئ أن أحداثاً بسيطة مثل الغوص بحثاً عن اللؤلؤ، أو السفر للمتاجرة، أو صناعة السفن، أو بناء سجن في إحدى زوايا البيت للفتاة الخارجة على التقاليد، هي أحداث تقع في أسطورة من الأساطير، وليست مما يجري في سياق حياة يومية. اللغة لا تحاكي بقدر ما تتخيل، وهذه هي إحدى سمات الشعرية التي تكسب المحاكاة طابعاً ملتبساً على عكس العنصر اللغوي الخامد والمهمل في الرواية التقليدية.
اللغة تكتسب حياة جديدة، وتؤدي دوراً في خلق فضاء للسرد يبتعد عن التقريرية وعن الخبر، فضاء يسمح بتعددية مستويات الحكاية، ومستويات اللغة، بل ومستويات الوجود الإنساني الذي لا يعود سجين «الحكاية» و«الحبكة» وما إلى ذلك، بل حراً بكامل طاقته وإمكانياته.
لا تقوم شعرية هذه الرواية التي تقصّ حياة قرن كامل على صعيد تتابع الأحداث، بل على صعيد تتابع تجارب مع البحر والصحراء والأوبئة وعواطف الإنسان، تجارب مصوغة أو مخلوقة مجدداً، كأنها تحدث للمرة الأولى، ومن هنا شعرية السرد الذي يستثمر طاقات اللغة الإيحائية والدلالية، وينظّم كل هذا في سياق يبعدنا عن التشويق الخاص بالحبكة، ويقرّبنا من التشويق الخاص بالمشهد بحدّ ذاته: متعة الكشف.
ولهذه اللغة ميزات تمتاز بها؛ صحيح أنها تسرد وتُخبر، ولكنها ومضات تحيل إلى ذاتها دائماً، وتجعل متعتنا أكثر التصاقاً بكيفية القول لا بما تقول بالدرجة الأولى. إلا أن هذا لا يعني أن الرواية الشعرية تفتقر إلى البنية المتكاملة؛ إلى سياق أحداث يتلو أحدها الآخر وصولاً إلى نهاية ما، بل يعني أن مصادر تشكّل البنية تنبع من مكان آخر تسهم اللغة في صياغته؛ إنه المستوى الإيحائي الناظم لسياق الأحداث.
وتستخدم الكاتبة/الشاعرة في هذا المجال، وتقيم معمارها الإيحائي، اعتماداً على ثنائية رمزية بين أزواج من المتقابلات: هي هنا في رواية «النواخذة»، المرأة/ الرجل، البحر/ السفينة، اللؤلؤة/ الغواص، الشاطئ/ البحر، المدينة/الصحراء، إلا أن هذه الثنائيات لا تتعارض بقدر ما تتناغم عبر حركة تكاد تكون عامة، ومن طبيعة مناخ الرواية. حركة الغوص، أيام الغوص بحثاً عن اللؤلؤ، تكتسب معناها الإيحائي حين تتحول كل أفعال الأشياء والناس إلى غوص في الأعماق، بل حتى إلى غوص في مستنقعات الغابات الإفريقية بحثاً عن أخشاب «المنغروف».
المرئي لا يكتمل إلا بحضور اللامرئي. أما المسرح الذي يحدث عليه كل هذا، فهو مسرح حاضر وقائم، يتشكل وينهض مباشرة في لحظة الفعل، ومن هنا حضور الفعل بصيغة المضارع، ويكاد يختفي الفعل بصيغة الماضي، حتى الأسماء تتحول في هذا السياق إلى جذورها الفعلية، أي إلى كونها أفعالاً في أصلها؛ الطبيعة لاتسمي بل تتشكل من أفعال متوالية لا تتوقف، تماماً مثل حركة الأمواج جيئة وذهاباً، حتى وإن تخيلنا أنها ساكنة، مجرد اسم حين ننظر إليها من مسافة بعيدة، من نافذة طائرة مثلاً، أو كما يراها الطائر الممعن في أعماق الفضاء مجرد نقطة ماء في هوة سحيقة.
الفعل ربما كان أساس البناء كله، في الحياة واللغة، انسجاماً مع حقيقة أن الفعل هو ما يحدث في الطبيعة، وهو جذر كل شيء، ومثلما هي الحياة التي تبدأ بالفعل: صناعة السفينة، وصراخ النوارس، وحركة البحارة، والانسراب في الليل، كذلك تقوم الجملة الروائية على الفعل، وتحتفي بحركة الأشياء والناس والأصوات والألوان، لينهض من كل هذا فضاء النص الروائي.
البحرُ بعد آخر، أو هو النسّاج في هذا النص، إنه ينسج العلاقات، بين الأمكنة والبشر والأزمان، هو المرأة – الأم، والمرأة – الحبيبة، والمرأة – المتنبئة، هو مصدر الصوت والحركة، الميلاد والموت. إن بحراً من هذا النوع الذي يود أن يحيط بكل شيء لا يمكن أن تتعامل معه إلا لغة تتقمص حالته، ما بين مدّه وجزره، ما بين هياجه وهدوئه، ما بين سطحه وأعماقه، وانفلاته أحياناً حتى من لغة السرد المعتادة.
تكاد اللغة أن تكون وتتغير إذاً، حيث تكون وتتغير التجربة، ولا أهمية كبيرة أو صغيرة للأصناف الأدبية التي تخشى التداخل والتمازج، وتحافظ على حدودها كما لو أنها كائنات صماء، تسيّجها حدود نسميها «الرواية» أحياناً، ونسميها «القصيدة» في أحيان أخرى، وإذا تعددت المشاهد واختفى صوت الراوي وتبادل أشخاصها الحديث أطلقنا عليها اسم «المسرحية». ولعل هذا التصادي بين حركة اللغة وحركة الأشياء والناس، بل وحركة الرواية/الشعر، هو الذي يثري الرواية ويولّد رمزيتها الشاملة: الفعل الذي يمارسه كل شيء في الكون باتجاه الاتحاد والامتزاج بنقيضه، فعل الحلول بتعابير المتصوفة، أو فعل التناغم بتعابير الموسيقى، أو فعل الحب بتعابير علم لم يولد بعد اسمه علم الكينونة.
خلف كل هذا، خلف الشعر والبحر والسفر والغوص على لؤلؤ الأعماق والبحث عن رفاق أو أحبة، يتراءى العدم، ليس كنقيض للوجود، بل كنصف قوس حاضر ينحني في مواجهة قوس الكينونة، ويكمل الدائرة. لهذا لن تدهشنا في هذه الرواية التي يعني اسمها «قباطنة السفن» المعروفين في الخليج باسم الجمع «النواخذة»، أن نشاهد حطام السفن الغارقة إثر معارك بحرية، أو إثر عاصفة من العواصف، السفن نفسها التي تستقبل بالأهازيج حين ترسو على «الجودي»، أي ساحل البحر، أو حين يودعها سكان السواحل وهي ترحل إما للمتاجرة أو الصيد أو النزهة أو الغوص على اللؤلؤ. مثلما لا تدهشنا مشاهد الحياة اليومية العادية، مشاهد سعي الناس إلى معاشهم أو مساجدهم أو أسواقهم، ومشاهد النسوة السجينات أو النسوة الهاربات مثل طيور القطا بين الكثبان الرملية.
هذه مصاير متشابكة لا تحسن أي رواية اصطيادها بغير شبكة الشعر، وستفقد الكثير من نضارتها ونبضها إن حاول كاتب اصطيادها باللغة كيفما اتفق، أو هذا هو على الأقل ما تقوله لنا هذه الرواية ومثيلاتها، من نوع رواية «مئة عام من العزلة» للراحل «ماركيز»، تلك التي أكد ناقد ذات يوم أن عظمتها تكمن في أنها «شعر خالص».
_______
*الخليج الثقافي