هيرتا موللر: الكتابة لا تحررنا.. واللغة ليست وطناً



*سامر مختار


ضمن فعالية “أسبوع أفلام غوته” في مصر؛ عُرض الفيلم الوثائقي “أبجدية الخوف” عن حياة الروائية الرومانية هيرتا موللر( 62 عاماً) الحائزة جائزة نوبل للآداب(2009). 
في الدقائق القليلة التي تقضيها في انتظار بدء فيلم وثائقي عن كاتبة، لنفترض أن المشاهد لا يعرف عنها سوى أنها كاتبة مهمة حازت جائزة نوبل للآداب، يتساءل المرء بينه وبين نفسه: عن ماذا ستتكلم هذا الكاتبة “العظيمة”؟ عن طقوس الكتابة اليومية؟ أم عن تقنيات الكتابة الخاصة بها؟ ولماذا هذا العنوان “أبجدية الخوف”؟ لكن هذا التساؤلات ستكون مرتبطة أيضاً بعبارة كُتبت في السطر الأخير في الكتالوغ “فيلم عن الحياة في الخوف دون أية أسلحة عدا الأدب”. 
لكن المشاهد العربي أو المصري، سرعان ما يكتشف أن الخوف الذي تعنيه وعانت منه هذا الكاتبة، ليس بعيداً، لدرجة أنه قادر أن يختصر المسافات الطويلة، وآلاف الكيلو مترات التي تفصل مصر عن رومانيا مثلاً، ومن الممكن أن يشعر أيضاً أن الخوف موجود في صالة السينما المكشوفة على الهواء الطلق، أو قد يكون أشبه بعربة تنتظره أمام معهد غوته، ريثما ينتهي عرض الفيلم؟!
منذ بداية الفيلم تتحدث هيرتا موللر عن صنفين من الخوف: الخوف الطبيعي والذي يصيب أي شخص منا من أي شيء في الحياة.. والخوف المركّب، وهو آتٍ من السلطة التي تمارس القمع. كما تشبه موللر الخوف برأس كلبٍ كبير، وقبيح للغاية، ليبدو أنه من الصعب تجاوزه، أو أنه، بحسب تعبير آخر لها، “السلطة القمعية تحاول بأن تجعل من الخوف خيطاً رفيعاً لدرجة أنه يصبح لامرئياً”. 
تحكي هيرتا موللر عن جزء من حياتها عاشته في ظل نظام نيكولاي تشاوشيسكو الديكتاتوري، والذي حكم رومانيا بين العامين 1974 و1989 بقبضة من حديد، إضافة إلى أجهزته الأمنية القمعية. فهذا الخوف المركب واللامرئي، كان يرافقها في حياتها اليومية، إذ كانت في ذاك الوقت تخضع لمراقبة أمنية، وتروي أيضاً أنها عندما كانت تخرج من البيت كانوا يدخلونه في غيابها تاركين أثراً كرسالة… الأثر كان مفتوحاً دائماً على احتمالات كثيرة، والكثير من التوجس والترقب. تقول هيرتا موللر إنها دخلت بيتها ذات مرة لتكتشف أن السجادة التي هي عبارة جلد وفرو ثعلب، لتلاحظ بأن الذيل مقطوع، وحاولت أن تقنع نفسها بأن الذيل قد قطع لوحده، وأنه لا شيء يدعو للقلق، لكن الموضوع سيتكرر في الأيام التالية، لتجد إحدى قوائم الثعلب مقطوعة، وبعدها الرأس. كانت هذه الممارسات وممارسات أخرى حدثت مع أصدقائها، تدفع أحياناً إلى الجنون أو الانتحار، وكثير من أصدقائها انتحر، أو “تم إعدامهم شنقاً وقيل أنهم انتحروا!”.
كانت هيرتا موللر قد روت بعضاً من أساليب التحقيق التي كانت تمارس عليها من قبل الأجهزة الأمنية، في محاولة لإجبارها على مراقبة أصدقائها أو كتابة تقارير أمنية بحقهم، وهي كانت ترفض. ففي كتابها “الملك ينحني ليقتل” تقول موللر: سأل المحقق أثناء التحقيق باحتقار: “ماذا تعتقدين، من أنتِ؟”.. لم يكن ذاك سؤالاً قطّ، لكني مع ذلك أردت استغلال الفرصة لأجيب: “أنا إنسانٌ مثلك”. لقد كان ذلك ضرورياً ومهماً أيضاً بالنسبة إليَّ، لأن سلوكه كان يوحي باقتدار وتعجرف كبيرين، وكأنه نسي أنه إنسان. خلال اضطرابات مقاطع التحقيقات كان يناديني بأسماء مختلفة: “غائط” وقذارة وطفيليّة وكلبة. وحين يعتدل بكلامه يناديني “عاهرة” أو عدوّة.
وفي حديثها عن تشاوشيسكو تقول موللر: لا أحد كان يؤمن به، إذا ما قارنّاه بستالين، أو لينين، أو هتلر. لتعود هيرتا موللر إلى فكرة الخوف، كعلاقة تربط بين هذا الديكتاتور وبين الشعب.
وفي انتقالها إلى موضوع الكتابة واللغة، سنرى أن موللر تكسر الكثير من الكليشيهات الجاهزة، فترفض مثلاً الفكرة السائدة بأن “الكتابة تحررنا” : الكتابة لا تحررنا، وكأنها في قولها هذا تربط الكتابة بتجربتها الإبداعية القائمة على حياتها قاسية. الكتابة عندها، إذن، أشبه بعملية استنزاف للذاكرة، ولحياة مليئة بعذابات الإنسان الذي حكم عليه بالخوف. أما عن اللغة فتطرح سؤالاً استنكارياً: “ماذا يعني بأن تكون اللغة وطننا؟”.. على عكس كتّاب يعيشون منفيين، مثلها. لكنها تستشهد بمعارض صيني كتب ذات مرة وثيقة يدعو فيها إلى دولة ديموقراطية، يتم فيها إجراء بعض الإصلاحات من دون إسقاط النظام، على أن تجري تلك الإصلاحات ببطء شديد، ليقضي بقية حياته بالسجن بسبب تلك الوثيقة! وتعلق موللر: “لقد كتبت هذه الوثيقة بلغته الأم، باللغة الصينية”.
ينتهي الفيلم باحتقان وجه هيرتا موللر، ورفضها الإجابة على أسئلة محاورها بـ: كفى، يكفى أسئلة يا رجل… هل تعتقد أني إنسانٌ محصن؟!
لتترك الكرسي الذي كانت جالسة عليها مقابل الكاميرا، وتذهب بعيداً، فنراها وهي تخرج من كادر الصورة، ماسحةً عينيها بأصابعهت، ربما لتخفي دمعاً ما زال ينهمر من الذاكرة.
(*) فيلم “أبجدية الخوف” من إخراج جون ألبرت جانسن. 55 دقيقة. إنتاج 2015.
_________
*المدن

شاهد أيضاً

العلاقة بين الشخصية الحقيقية والروائية في مسلسل التغريبة الفلسطينية

(ثقافات) “طربوش أبو عزمي العلي”:   العلاقة بين الشخصية الحقيقية والروائية في مسلسل التغريبة الفلسطينية زياد …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *