رواية تونسية تحكي سيرة الانكسار والانتصار



*ناهد خزام


منذ الوهلة الأولى التي نطالع فيها رواية “مانيفستو أيوب أو الطريق إليّ”، للكاتب والصحافي التونسي صابر بن عامر ندرك أننا أمام شخصية مربكة أو استثنائية في تكوينها الجسدي والنفسي على حدّ السواء، فالرواية تعرض لنا سيرة ذاتية لأيوب، هذا الطفل المولود بيد وساق مبتورتين، لكنه يتمتع في المقابل بجمال فائق، ونباهة تتكشف ملامحها مع مرور الوقت.
يظل هذا التناقض، أو معادلة النقص والكمال قرينا لأيوب في بقية فصول الرواية الموزعة على عدد الأحرف العربية، وتبقى أحداثها سيرة لإنسان يبحث عن ذاته وملامحه المكتملة والحبيسة داخل جسده غير المكتمل، ليجد نفسه تائها في دروب الغواية.
هوية باهتة
نشتم بين سطور الرواية، الصادرة عن دار “نقوش عربية”، أثرا لملامح هوية باهتة تتشكل شيئا فشيئا أمامنا، هوية ذات قوام غير متماسك، تتشابك فيها الذات مع محيطها، وتختلط أوجاعها بالوطن الباحث عن خلاصه، ثم تشتبك الهويتان معا؛ الإنسان والوطن، وتنسجان ملامح أيوب مبتور اليد والساق، الباحث دائما، كما الوطن، عن خلاصه وحريته.
تضعنا الرواية في مواجهة شخص نرجسي الطابع، لا ينظر في المرآة سوى للإعجاب بنفسه وهيئته، “أنا نحبْني” يقولها لنفسه صباح مساء، حتى لم يعد يرى أمامه سوى ذاته، وقد ساعدته في ذلك مقوماته الشخصية من ذكاء ووسامة.
يستقبل أيوب إطراء من حوله بالمزيد من الغرور “كان يستغل هذا الإطراء بخبث فطري فيه، ليكون سيد الفصل على قريناته من البنات المشتهيات من الأولاد، فيغازلهنّ جميعا، ولا يرافق منهن واحدة، فيمتعضن من نفوره ويغتاظ الذكور من احتكاره لقلوبهن الغضة الجريحة.. يبتهج سرا لشعور زملاء الفصل بالغبن والصَّغار والقهر من قدرته على الصيد والقنص العاطفي”.
غير أن هذا الغرور والتيه اللذين يغلفان شخصية أيوب ليسا في الحقيقة سوى غلالة مصطنعة يخفي بها ضعفه ونقصانه وسعيه الدائم إلى الحرية، هذه الحرية المرهونة بتمرده على ذاته والآخرين، والتي يشبعها انتقاله بين أحضان النساء.
يقوده هذا السعي الغاشم لنيل الحرية إلى الوقوع في الأسر، يفقد أيوب حريته ويكاد يفقد وطنه أيضا حين يهرول خلف حسناء أميركية مدفوعا بميله إلى الاكتشاف والمغامرة، ظنا منه أنه مقبل على حياة جديدة، لكنه يجد نفسه في مواجهة واقع آخر، فالحسناء الأميركية “تملكيّة حدّ الهوس”، وهو أحد أملاكها التي تشبع بها غوايتها أو هوسها.
هنا يتضح الاشتباك بين هوية أيوب ووطنه عبر ذلك الحوار الدائر بينه وبين سجانته الأميركية في لحظة مواجهة قاسية، في هذه المواجهة يلهب أيوب أذني جميلته بالكلمات الموجعة، كما يوقظ ضميره أيضا بصراخ داخلي وكأنما يخاطب نفسه ووطنه «لا يعرف أيوب إلى اليوم كيف صرخ من كل جوارحه الجريحة، وبكل أحبلته الصوتية دون أن يُسمع بنت قارة الحريات الشبقية “أنا الشعب، والشعب أنا”، و”أنا نحبْني” حر، و”أنا حر، وحر أنا”، وهي تقذفه بعباراتها العنصرية المريضة، قالت غاضبة “أنتم العرب لا تعترفون بأفضال أولي النعم عليكم، متمردون، ومقامرون، حاقدون وجاحدون”».
الذات والوطن
يعد فصل “صفعة القرار” أكثر فصول الرواية كشفا لذلك الاشتباك بين ذات أيوب ووطنه، وفيه تتجسد ذروة انفعاله عبر هذه المواجهة الحامية مع سجانته الأميركية، غير أن الأمر ليس كما يبدو في الظاهر، فالمواجهة ليست بين أيوب وتلك الحسناء المريضة بداء التملك، المواجهة الحقيقية هنا بين أيوب وإحدى أكثر مخاوفه ضراوة والمتمثلة في فقدانه لحريته.
بالحيلة، يهتدي أيوب إلى طريق الخلاص من أسره، وبالحب يهتدي إلى طريق الخلاص من تيهه، يحتضن الوطن من جديد، ويبدأ في لملمة ذاته المتكسرة حين يلتفت إلى عشقه الخافي عن ناظريه، حين ينفتح قلبه وعقله على خفقان قلب رحاب، لتبدأ صفحة جديدة من سيرة الوطن، أو سيرة أيوب مبتور اليد والساق، الباحث عن الكمال والحرية.
وتأتي تباشير الكمال والحرية حين “يشاء القدر أن يعلم أيوب بحمل زوجته التي ما عادت صديقته صبيحة يوم الخامس عشر من جانفي (يناير) 2011؛ حالة طوارئ، قانون حظر التجول يعمّ البلاد بعد فرار الجنرال الذي جثم على صدر البلد ثلاثة وعشرين عاما بالتمام، ودون كمال.. فرح مُضاعف انتاب أيوب، خبر الحَمل وانقشاع الحِمل عن تونس الجديدة التي عادت أرضها إلى شعبها”.
رواية “مانيفستو أيوب أو الطريق إليّ” تحمل بين سطورها نوعا من المراوغة الظاهرية، وهي مراوغة دالة ومحسوبة، تتمثل هذه المراوغة في اشتباك الرواية مع كاتبها، اسم صاحب السيرة أيوب الصابر المُصابر، كما يصف نفسه، وعمله في الصحافة، وكذلك الجزء الآخر من اسم الرواية “الطريق إليّ”، كلها إشارات توحي بأننا أمام ما يشبه السيرة الذاتية، غير أن الكاتب يستبق هذا الظن، ويقطع الطريق على هذا الافتراض عبر التنبيه الذي وضعه في الصفحات الأولى “من اعتقد أن ما حدث في الوقائع السردية قد حدث في الواقع فقد اختلط عليه الأمر”.
لسنا هنا أمام سيرة ذاتية بالمعنى المباشر، لكننا في الحقيقة بصدد قراءة للأحداث والوقائع المتضمنة في الرواية بعين صاحب الرواية، يبقى أن نقول أن رواية “مانيفستو أيوب” هي رواية مسكونة بالوجع والبهجة، رواية تؤرخ لضعفنا وانكسارنا، وتحكي سيرة ولعنا وانتصارنا.
___
*العرب

شاهد أيضاً

العهدُ الآتي كتاب جديد لمحمد سناجلة يستشرف مستقبل الحياة والموت في ظل الثورة الصناعية الرابعة

(ثقافات) مستقبل الموت والطب والمرض والوظائف والغذاء والإنترنت والرواية والأدب عام 2070 العهدُ الآتي كتاب …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *