تضم المجموعة القصصية (تودة) ثمانية عشر نصا قصصيا . (نعيق الخلاء – حنين الأماسي – توده – حنين الغياب – أمهات الموت – مال السماء – خوذة الضياع – أفول – رتق الحنين – مهاوي الصمت – هيبة الماء – مضمر الصباح – مزار الألم – صحابة – كؤوس – هناي – ارتجاج – توحد . وانطلاقا من هذه النصوص فالمجموعة القصصية “تودة” لأحمد شكر تؤسس بنائها الحكائي انطلاقا من مؤشرات اجتماعية وذاتية تتعالق فيما بينها لتشكل نصا محكيا بتعدد فضاءاته وتنوع أحداثه ، وشخصياته ، وأزمنته التي تنفرد بمرجعية ذاتية ، ذات السارد/الحقيقي في ارتباط وثيق بشخصيات المجموعة التي هي الأخرى لها ارتباط بالواقع الاجتماعي من خلال أقوالها وأفعالها ( الأم ، باعلي ، الشيخ عامر …) . من هذه المنطلقات التي أعتبرها مرجعية في هذه المقاربة ، أعتقد أن الوعي القصصي لدى أحمد شكر متزامنا ومتفاعلا مع مؤشرات الوعي الاجتماعي . الوعي بما تعانيه الذات الإنسانية من قهر داخل فضاء متعدد الأبعاد والدلالات وذلك من خلال تعيينه كمدرس في مناطق نائية . لذلك اختار القصة القصيرة كشكل من الأشكال التعبيرية ، باعتبار هذا الأخير يعد الشكل المكثف والمختصر الذي يعبر بشكل دقيق عن مكنونات النفس البشرية ، في حلها وترحالها ، في ألفتها وفي غربتها.
إن كل قصة من قصص المجموعة تصور حال السارد / الحقيقي ، ومآله وآلامه وآماله ملتحمة برموز الواقع المباشر أحيانا . ضاربة في عمق التخييل القصصي أحيانا أخرى . ومن ثم يمكن القول بأن وعي المؤلف بالذات .. وبهوية المكان ، متجدر في تربة الواقع الاجتماعي ( صوت عميق يمتح دفئه من تراب هذه الارض التي تحتوينا ، لم تنحته معاهد ولم تشذ به بهرجة المدينة ، ظل يختزل تألقه وتوهجه في بحته المجروحة والممهورة بطيف هذه الارض المحتضنة لأوصاله وعشقه ).ص4 .
ان في أغلب قصص المجموعة تداعيات شعورية محكومة بالوعي / وعي المثقف المقهور والمنبوذ اجتماعيا ، والحامل لرسالة تربوية نبيلة . وهنا تكون الكتابة لدى كاتب المجموعة القصصية مطبوعة بالتذكر والرجوع إلى الذاكرة ، من أجل إعادة ترميم وتوليف وسد الفجوات لتسقيم كل الصور العالقة بالذاكرة ، قصد نسج خيوط قصة قصيرة محكومة بزمان ومكان محددين اجتماعيا وتاريخيا وثقافيا .
كما أن المجموعة القصصية تتميز بسيطرة هاجس الصمت، وسكون الليل ، والدخول في طقس السارد الخاص رغم تنوع نصوصها . وقد انعكس ذلك على بعض شخصياتها التي تعد امتدادا للسارد الحقيقي . فالتفرد والوحدانية هي سمة الشخصية المحورية في قصة ( نعيق الخلاء) ، في تعالقها وارتباطها مع باقي شخوص النص (لكن المصير لن يتغير فالنسيان حليفنا ..)ص6 ومرة أخرى يحل الليل ..(الليل الموحش والساكن كمقبرة منسية ..)ص7. إنه انغماس الذات في فضاء الصمت اللامتناهي والبحث في دواخل الكينونة الانسانية عن أشياء لا متناهية ، في زمن لا متناهي .
وينتقل بنا السارد للحكي عن فضاء مقفر تعيش داخله طيور عملاقة لها ارتباط بقدسية المكان ، تولد في صمت وتكبر في صمت (حنين الأماسي) ، واحد منها يحرص هذا الخلاء الموحش “الشجرة ، البئر ، حجرة الدرس ….” انها وضعية السارد الحقيقي بامتياز وليس المفترض …السارد الواعي العارف بكل شيء ، الذي يتخفى داخل مؤلف حقيقي (أحمد شكر) .
أما ما يميز القصة التي تحمل المجموعة عنوانها “تودة”، هو تناوب الحكي فيها من ضمير الغائب الى المخاطبة الى الغائبة … تنوع في الحكي يعني تنوع في موضوع الشخوص داخل فضاء فيزيقي من ابتكار المؤلف الحقيقي لأن توده لم تكن أكثر من حلم بحري حاصر السارد الحقيقي في شعاب الاطلس لذلك سيظل يطارد طيفها في الاعماق المستوحشة(ص 15).
فالسارد هنا يحاول استحضار ملامح لصورعالقة بذاكرته تعبر عن صدق نواياه. غير أن الألفة التي نسجها بينه وبين الفضاء في (حنين الأماسي ) من جهة وبين شخصية رئيسية “باعلي” و “المحرك” من جهة ثانية ، نسجت ألفة غريبة بينهما .غير أن القدر وضع حدا لها ، حيث رفض المحرك الانصياع لكل من شغل مكان “باعلي” ص21.
أما في( أمهات الموت) فالسارد يستثمر الذاكرة بامتياز من خلال حكيه عن الام وعن حكاياتها له ، حكاياتها المؤثثة بالفقد جعله يستعذب مذاق فطائر الليالي الباردة ..حكيه عن وحشة المقابر فجرا(ص25) … صاحب القبر المنسي الذي طالته أيادي الغدر ، خططت للإيقاع به ، وطمر حلم قبيلة كانت تبحث عن انعتاقها ( ص26).. وغرق الابن الوحيد للأم في “قربان الماء” . وفي (خوذة الضياع) يحاول السارد ترميم الصور العالقة بالذاكرة عن الشخصية التي يحكي عنها (والشخصية ماهي الا أحد أشكال المتكلم )(1) .مثبتة هي صورته في شقوق ذاكرتي السحيقة …(ص36) .جزء من ذاكرتنا ومن معمارنا وأشياء حينا التي كانت تتجمع فوق كتفيه المنهكين ترتق ما ساح من ذاكرتنا الطفولية…(ص36) هذه القصة مقسمة الى أربعة مقاطع : – مرارة الذكرى – (مطبوعة بالتذكر) – مونولوج الحزن اليومي وهو حوار داخلي للسارد/الحقيقي حول الضياع والفقد والالم .لان خطاب السارد” مشخص بواسطة خطاب الكاتب نفسه .(2) – ..أعرف أنه ضياعي أنا …ألمي أنا … وزن أحد لم يستطع تجرع مرارة العذاب مكاني أنه قدري المعتوه …(ص38) .-رحلة البحث – الصورة .
غير أن السارد /الحقيقي يحاول في نص اخر (رتق الحنين) أن يكسر الصمت بتغييره فضاء البادية بفضاء أكثر صخبا ، انه فضاء المدينة. الفضاء الذي كان بحجم صدر ابنة الجيران الناتئ(ص 46) أزقتها الضيقة ، دروبها العتيقة ، مشاكسة أبنائها لأصحاب الحوانيت الا “باعلال” الشخص الذي يرتق جرح هذه المدينة (ص74).
أما ما تبقى من نصوص المجموعة فيمكن تصنيفها ككتابة تعبر عن مكنونات النفس الانسانية لأنها لم تعرف اهتماما أكبر بالمحكي القصصي وخاصة العلاقة السردية بين الفضاء والشخصيات من جهة وبين الزمان والاحداث من جهة ثانية ، في تداخلها وتباين المحكي القصصي الذي لم يتم التركيز عليه بشكل كبير ، بل كان الاهتمام بالوصف وتنويع الفضاء حسب طبيعة القصة مع التركيز على ضمير الغائب ضمن منظوره السردي وتنويع طفيف في الضمائر السردية التي تعرفها المجموعة ككل . ومن تم فالمجموعة القصصية (تودة) لا تعرف تعددا في الاصوات ، ولكن هذا لا يعني أن هذه “القصص ” قد أصيب بناؤها بالتفكيك ، لان المؤلف وانطلاقا من تركيزه على مجموعة من التفاصيل المشهدية توخى من خلالها استجلاء مكنوناته الشخصية ، من خلال مظاهر ولغة المكان ، وهذا المكان جعل شخصياته تتحرك فيه وفق ضوابط محكومة ذاتيا . ومن تم كان الفضاء الواقعي والشخصيات والمحكي القصصي ، وما صنعته الذاكرة وفق نموذجها الخاص ، هي اذن أهم الخصائص والدلالات التي ميزت هذه المجموعة القصصية .
أما لغة المجموعة فلا يسعني الا أن أقول ما قاله “باختين” لغة النص مجسدة على الصعيد الاجتماعي والتاريخي ولكي تصير صورة للفن الأدبي يتحتم أن تصبح كلاما على الشفاه التي تتحدث وأن تتحد بصورة الانسان الذي يتكلم (3)
__________
*هوامش:
تودة أحمد شكر ، قصص قصيرة ، الطبعة الاولى 2002 دار القرويين البيضاء
1-الخطاب الروائي . ميخائيل باختين ، ترجمة وتقديم الدكتور محمد برادة دار الامان الرباط الطبعة الثانية ، الصفحة 92