نماذج من توظيف الأدب الشعبي الحساني في رواية “بقايا حلم عزة”

خاص- ثقافات

*بوزيد الغلى

بقايا حلم عزة، رواية صدرت عن مؤسسة آفاق بمراكش عام 2013  للروائي يحضيهبوهدا، و تدور أحداثها بفضاءات صحراوية تتوزع بين البوادي و المدن الصحراوية (العيون، الداخلة، الطنطان، بالإضافة الى مدن موريتانية من أهمها ازويرات. و تشكل عزة الشخصية الرئيسة التي صنعت الأحداث و دارت حواليها، فهي امرأة صحراوية، ساقها المسار السردي للانتقال مع عائلتها من حال الترحل بأقاصي البوادي كما يفعل كبار الرحل ذوو النجعات الكبرى إلى حال الاستقرار بالعيون لما جف الضرع و شحت السماء، وتعرضت لانكسارات و تقلبات  طيلة حياتها المتخيلة في النص الذي يلامس وقائع حقيقية شكلت علامات بارزة في تاريخ الصحراء المعاصر بعد جلاء الاستعمار عنها، إذ أنها اختارت الطلاق من زوجها الذي شكت في ملاطفاته للنساء، و حملتها محمل الخيانة، و أثخنتها صروف الدهر، فقضت عمراً طويلا قعيدة  بعد أن قادها ركوب جملها (الحران) إلى المحذور إثر سقوطها و إصابتها إصابة فشل حكيم الحي في علاجها بالكي، و حمّلت همّ الأيتام  الذين ماتت أمهم و تركهمشقيها (أبوهم) تحت رعايتها،ومضى لاسترداد دين من غارم أوصله اللحوق به إلى مخيمات تندوف، و لم يستطع العودة منها إثر استعار الحرب الدامية.

و أذبلت عزة زهرة حياتها مكافحة في سبيل العبور بالأيتام إلى برّ الأمان، ولم تكن لها من أحلام سوى رؤيتهم سعداء يترفلون في بحبوحة عيش، و لم يبق لها المنون رمقاً حتى ترى آخر أحلامها يتحقق،وهو بلوغ الابن الذي عاش في حضنها منذ صرخة الولادة، وقد بلغ نهاية مشواره العلمي (مناقشة الدكتوراه)  بعد أن شهدت بلوغه أشده، و ولوجه سلك الوظيفة العمومية، و زواجه.

التراث في ” بقايا أحلام عزة”

يرى عبد الكبير الخطيبي أن التراث ” هو الرجوع إلى ما نسيناه، وهذا الرجوع هو تحرك الجسم و تحرك العقل، أي الجذور الطبيعية والتاريخية التي تحدد كيان الانسان… الرجوع إلى ما نسيناه،  نسينا أن الأموات تنادينا منذ زمن طويل… تركوا آثاراً في الجسم و في العقل المغربي،وهذه الآثار المتنوعة،منها ما ينتمي إلى عصور ما قبل التاريخ،منها ما ينتمي إلى التاريخ البربري والروماني و الفينيقي، ومنها ما ينتمي إلى تسليم المغرب إلى الإسلام، وتعريب المغرب بسلام أو غير سلام،، ثم هناك ما ينتمي إلى الاستعمار الفرنسي و الإسباني خاصة، وإلى الحضارة الأوروبية “.

التراث بهذا المعنى ممتد فينا  مؤثر فينا، إنه ” عودة ما دخل طيّ النسيان” ، و ” إذا أردنا أن نقطع الصلة معه، يجب أن نعرفه جيدا، يجب أن نكون قد أحببناه وتشبعنا به”.

يطل عينا معنى التراث في رواية ” بقايا أحلام عزة ” من كوَّة العنوان الذي يحيل على ” ما تبقى بعد موت عزة ” من تركتها “الرمزية ” و ” المعنوية ”  التي يتخذها السارد عينا تسِحّ منها الحكمة و المثل و قطوف الشعر التي وسمت  الرواية بميسم هوية ثقافية حسانية لا تزال تتلمس مكانها تحت الشمس.

122

لقد أضحى مرقونا في ذاكرة العين الفاحصة لكثير من الروايات العربية  استخدام كَتبتها – و بعضهم  من المرموقين الذين لا تتقحَّمهم مَلاحظُ النقاد إلا غراراً-  قطوفاً من التراث الشعبي الذي يسبغ  على النصوص رداء الانتماء إلى ثقافة محلية ترفد التنوع و التعدد، و تقطع أوصال ” الأحادية الثقافية “، فهذا عبد الرحمان منيف يورد أبياتاً من الشعر النبطي على لسان شخصياته في مواضع شتى مثل قوله في الجزء الثاني من روايته العنون ب ” الأخدود”، ص 526  :

” كان يقول ذلك بنغم مع دقات الطبل، ثم يدق بقوة و يغير النغم وهو يدور :

اليوم الأسود يوم جينا وشفناك /// و اليوم الأبيض يوم تعطينا قفاك”

وهذه الروائية رجاء عالم تورد على سبيل التناص في رواية ” خاتم” على لسان السارد  : ” فوشوشتها أغنيته : (يلقّم السكر و يلقم العنبر)..”، وهو مقطع من أغنية شعبية مطلعها : (ذبوح يا ذبوح، كلب العرب مذبوح…).

ويبدو الحرص على استعمال الملفوظات الشعبية الحسانية في رواية ” بقايا أحلام عزة” ملمحاً هاماً من ملامح جمال هذا العمل البكر الذي يستعيد لحظات قاسية من زمن الصحراء الراهن، تشتبك فيه قسوة الاختفاء  القسري و اليتم و الرحيل اقتضاء للديْن و طلباً لكسرة خبز في ” جنة الآخر” مع حنان الظئر الرؤوم التي تولت التربية و الرعاية بعد موت الأبوين… وقبل أن نعير اهتمامنا لجرد ودراسة تلك الملفوظات التي تنثال داخل سياقات السرد وحوارات الشخوص  دون تكلف، نستحسن الاستهلال بالكلام عن ” وسْم ” الإبل الذي أتى في سياق الإيماء إلى سِمة الصحراء التي تعرف بالبيداء، لأنها تبيد – و قد أبادت على حين غرة في الرواية أحد الشخوص غير الرئيسة (مبارك)، قاده الحظ العاثر و الأجل المحتوم إلى حتفه حين وطئت قدماه ” لغما” ليس يتيماً في صحراء أذهبت الحرب عذريتها و أمانها -، كما تعرف بالمُضلة، وقد أضلت  “ناقتين و جملا يحمل حرف الكاف”، تجشم علي وخاله البشير المتاعب بحثاً عنهما ص 62، و الوسم عبر الكي بالنار (Marque à feu) من أهم عوائد البدو الحريصين على تثبيت ملكية رؤوس القطيع، وقد أدرج  الدكتور عبد الكبير الخطيبي في كتابه الاسم العربي الجريح  جدولا يضم علامات الوسم عند قبائل الصحراء، . مستنتجاً “وجود أدلة مشتركة بين الوشم ووسم الحيوانات” (ص110). لقد اكتفى السارد بالإشارة إلى علامة الوسم (حرف الكاف) دون أن يسهب في وصف العملية و أدواتها  لئلا يكون الوصف عبئاً زائدا على البرنامج السردي، لكن بوسع القراءة النقدية أن تتوسع في تحليل الظاهرة و وظائفها في مجتمع البيضان القبلي اعتماداً على سبيل المثال على ما دوّنه المستعربون الغربيون في مصنفاتهم عن الإبل من أمثال: Trancart , Leriche,le borgne  .

توظيف الشعر الحساني في الرواية :

ذكر الدكتور حماه الله ولد السالم أن  الباحث الانجليزي نوريس اعتمد  “المعيار الثقافي ” القائم على رصد  الخصائص اللغوية و الأدبية للتمييز بين قبائل البيضان الذين سماهم ” شناقطة”،وغيرهم معتبراً أن  الشعر الحساني يوحدهم، ” وإن اختلفت بهم سبل السياسة، فهم يتذوقونه في موريتانيا كما في تندوف، وفي منطقة السوس التكني كما في إقليم أزواد ” ، و المتتبع للفضاء الذي دارت فيه أحداث الرواية، يلامس دقة هذا التحديد، حيث لا تحول الحدود الجغرافية دون تنقل بعض شخصيات الرواية بين الصحراء جنوب المغرب وموريتانيا و تندوف، إذ أن القسمات الثقافية و النسيج الاجتماعي القبلي مشترك بين تلك الربوع، وكما يتذوق هؤلاء الشعر الحساني يستلطفه و يستمتع به أولئك، فقول الشعر عندهم  على حدّ تعبير المختار السوسي أسهل من شرب الماء، و لذلك، فليس نشازا أن تنثال أبيات الشعر على ألسنة شخصيات ” بقايا أحلام عزة “، كي تزيد الكلام توشية و تحلية، ومن ذلك تذكر أحمد سالم “كلام عزة الدائم عندما تطغى على الفؤاد حسرته و حزنه على فراق أخيها، فتتمنى لو كانت القلوب تتكلم و تتحادث كي يتم الاستغناء عن شقشقات الألسن:

العين تبكي وادمّعْ /// فالقَلْب عادَت فجَّاجة

لو كانت القلوب تجمَّع (تتحادث)// لفّامْ (الأفواه) ماهي محتاجة ص39

لكنها تنفس كربة القلب بالتلسيم بحتمية فراق الأحباب، و استبدال الخلاّن بمن ليسوا من طينته ولا سجيته :

لا بد لمنادم ينصاب /// فالدنيا و يفارق لحباب

ولا بد من طفح الشباب،،، يكحالو منو مرحانو

و لا بد ل يصحب لصحاب /// اللي ما هم من جنسوكانو ص 66

و ينهل الشاب أحمد سالم  من معين حكم وأشعار مربيته ” عزة”، فيسترجع شعراً لقنته إياه في حضرة محبوبته التي تشتم منه رائحة اتهامه إياها بالصدود الذي يحفزه على الابتعاد و الوقوف على مسافة تعادل بُعد  مخزن البارود من النار كي لا ينفجر:

متن الشواط يذوب الحديد /// وطول الدف اكيّم لعكار

اخيْر إتمَّ بعيد بعيد/// ملَم ّْ البارود من النار ص 120

أما علي فقد كان عنيداً صمّ أذنيه عن سماع نصيحة الأم عزة التي تمنت عليه ألا يخاطر  بحياته و يهاجر سرّا إلى إسبانيا، فهجران الأوطان محبط و مخيب للآمال، و هو لا يزال غضّا طريّ العود، و ليس  سوى  غصن من شجرة العائلة، وإنما تزين الشجرة أوراقها اليانعة :

امنج لحباب يركَّب /// و يبط ما دندن رعدو

امروكْ الاَوْطَان يخيّب /// و العرش تنزاهُ  ورْقُو ص 107

و في سياق مراجعة عزة موقف ” أحمد سالم” من أجل ثنيه عن الاقتران بشابة ذاقت طعم فشل زواجها الأول، جرى على لسانها شعر ناضح بالحكمة مفعم بتأنيب الفتى المتشبث برأيه، فهو في عينها كالفارس الذي لا يأبه برأي غيره، ومن لم يسمع نصيحتك، فلا تذهب نفسك عليه حسرات، و لا توقظه من سبات غفلته :

فَارسْ مَا وَلاكْ لا تْشَاليهْ /// و الِّ مَا زَرَّب يرضْعُو عجُولُو

اللِّي راكَْد لا تْوَعِّيهْ /// و اللي ما شاف السما لا تنعتُولُو ص 127

و رغم وطأة هذا الشعر على قلب الفتى المتيم، فإنه ظل مستمسكا بالاقتران بالفتاة التي شغفته حبّا منذ أيام الجامعة، و قد طمأنها على مستقبل قرانهما ملتمساً منها طرح القلق و الشك جانبا، فالضيق يؤول إلى سعة، والهمّ ينتهي بالفرج حسبما لقنته ” عزة “التي حفظ عنها :

اللِّي بيمَانُو ما يَرفَدْ هَمّ /// عْلَى يَمّ الضِّيكَْ و العتِيكَْ

الضِّيق من اعكَابْ الفرَج ///و الفرَج من اعْكَاب الضِّيكَْ ص 141

توظيف المثل الحساني في الرواية :

تكمن وظيفة المثل حسب عبد الكبير الخطيبي في “مقاومة الابتذال” (الاسم العربي ص35)،  كما يؤدي دور اقتصادٍ دلاليص41، فهو ” بنية إيقاعية ثنائية…قابلة للتجزئ37 كما في الأمثلة الآتية المنتقاة من الرواية :

-(مول الصوم ألا عدو من الكوم ) +( و لاَّ زازو يا الكوم اللوم”) ص 11

-(اشوف الشيباني الكَاعد ) + ( الماَ شاف الشاب الدافع) ص 40

و يغلب على الأمثال التي وظفها الكاتب في مواضع شتى من الرواية الطابع التوجيهي، فهي ذات منحى أخلاقي قيميشديد الوضوح، إذ تعلي من شأن التربية و التنشئة الخيّرة (التربية خير من الأصل ” ص 84 )،وتشيد بحسن عاقبة الصبر (اللي صبر يلحكَُو الظل 34)،(المتبوع ملحوك ص 82)، و تحض على العمل من أجل تطويع المسخَّرات في البر و البحر (اللي خدم شيطاعو 29)، و النظر إلى مقاصد الأمور وغاياتها، فقد قال السارد : “فالمقصود من الزواج الاستقرار أ وكما يقال في ثقافتنا الشعبية : المقصود من الكُرة ألا الجري”.

و علاوة على توظيف الأمثال الشعبية الحسانية، نلفي  في النص ” قبيلة الكلمات” ذات الاحالات الثقافية المحلية، مثل القسم بسُرة شخص محبوب ، و لعل من أهم  وجوه بلاغة تلك الكلمات استعارة العضّ للتعريض بل الاتهام بالوشاية التي قادت الموشى به إلى الاعتقال القسري، وقد أجاد الكاتب تسريدَ هذا المعنى لحظة انهماك في لعب ” ضامة”، إذ همّ الخال المحجوب بالانصراف دون رغبة في إتمام شوط اللعب، فأمسك ” الواشي” (الشيخ فيضل، و يا لفداحة أن يصير  الشيخ واشيا) بطرف دراعته، قائلا على سبيل الممازحة :

” أكمل وإلا عضضتك في الساق”

أجاب المحجوب :

“خبرت عضتك من قبلُ في العرقوب”

فاندهش الرجل و الحضور،وعمّ صمت كامل”

لقد استعير العض على مستوى العرقوب للدلالة على أقسى حالات الطعن من الخلف (العرقوب)، ومن المعروف في ثقافة الصحراء أن الناقة على جلال هيئتها تخر أرضا عندما يقطع منها العرقوب،. وغالبا ما يعمد إلى قطع عرقوب الناقة المهداة على سبيل المجاملة الاجتماعية في مناسبات معينة،وتدعى لهذا الاعتبار ” تعرقيبة ” بالقاف المعقودة.

و من الملاحظ أن التراث الثقافي الثاوي في النص لا يحمل سمات ثقافة صحراوية  خالصة فحسب، بل ينطوي أيضا على بقايا آثار الوجود الاسباني بالمنطقة، فبعض الأحياء التي دارت فيها الأحداث لا تزال معروفة لدى ساكنيها بأسمائها الاسبانية  (كولوميناوكبيندو )، بل إن ملامح العمران الاسباني لا تعدم وجوداً هناك، الأمر الذي يزكي قول الخطيبي الآنف الذكر إن التراث المغربي (المادي و غير المادي) مشحون بآثار تنتمي إلى روافد مختلفة منها  الاستعمار ا لفرنسي و الإسباني و الحضارة الأوروبية “.

شاهد أيضاً

فصل من سيرة عبد الجبار الرفاعي

(ثقافات)                       الكاتب إنسان مُتبرع للبشرية …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *