ربيع “ميليشيا عمورة “

محيي الدين  كانون *

خاص- ثقافات

       هِيَ أنيقةُ…لكنّ هو أوسمُ منْها، تلاقيا في حُبّ سريعٍ جدا كتيّارهَوائي كان مكبوساً ،اشتعل  بينهما أكسجين الحُبّ في العَشية. معَ هُبُوب الرّيحِ فِي الصَّباحِ التَالي،أتْفقَا عَلى زِيجةٌ حُلّوةٍ سَريعةٍ جداً تَحْتَ صَهيل الرغبة.

    بَعْد أسْبُوع  منْ  مَلَلِ الانْتِظَارِ المُرّ ، اُبْرِمَ الزّوَاجُ بِعَقْدٍ مِنْ مأذونِ الحُبّ الأعْمَى. كانَ ذَلِك بَعْدَ الحَدْثِ الكَبيرِ الذي فَلَقَ البِلاد َوالعِبادَ بالطُّولِ والعَرْضِ ، وأصْبَحَ العريسُ بَعْدَ هذا الحَدْثِ  قائداً ميدانياً كبيراٌ لا يُشَقّ لَهُ غُبَارُ ، يقف بِهَامتهِ الطّوِيلةِ عَلى رأس كتيبة تَتْسَعُ كُلَّ يوْمٍ  للمُنْخَرطينَ. شاع اسمه “عَمُورة” فِي النّاحيةِ، وأشْتهرَ كَالحَريقِ فِي المِنْطَقَةِ كُلّها،  كانَتْ لِحْيَتُه مُسرّحةً قليلاً، مُلسن ووديع، كلامُه مِغْزَلُ حريرٍ، تبْدو دِيباجتُه مبشّرة  بالخيْر القادِم، لا يَخْلع بِزّتَه العَسْكرية حَتّى فِي صلاةِ الجُمُعةِ، لَكنّ للأسْفِ لمْ يقرأ فِي حيَاتِه كتاباً واحدا، ولمْ ينْه تعليمَه المَدْرسي… كَانتْ “سَنية”  أكثرَ حظاً منْه، أكْمَلتْ تعليمَها الجَامِعَي، وحيدةُ أبويّها مُرفّهَة للغَايةِ ، تسْبَحُ في ثَراءِ  أبيها ، الّذي لا يَرْفض لَها  طلباً أبداً.

      دُونَ سُؤال…وافَقَ الأبُّ عَلى زَوَاجَها مِنْ ” عَمُورة ” وَتَكَفّلَ بِكُلّ المصاريف ، وزَادَ بأنْ  حاولَ إقْنَاعَ الأم الرَافِضَةِ لِفكْرةِ الزّيجَةِ  على الإطْلاق، فلا أحدَ مِن عَائلِتَها، ولا مِنْ عائلِتهِ يَعْرِفُ “عَمُورة” هذَا….! ولا أحدَ يعرِفُ ماذا يَعْمَلُ ؟! وَكيْفَ يَكْسِبُ قُوتَه؟!، وَمِمَّا سَوْفَ يَعُولُ كَرِيمَتها، ويُلبّي لَهَا طَلَبَاتِها، وطَلباتِ بيْتِها الجَديدِ؟!

   هَكَذا كانَ رأيُ الأمِ فِي البِدايةِ… ولكن  في الصَفْحَة المُقابلةِ، هُناكَ رأيِ آخرِ للأبّ، رأيُّ عَمَلي حَصيف، خَاصّة مَع نَافورةِ الدّمِ السَيّال بَيْنَ الإخْوةِ الأعْداءِ، حَيْثُ تَتَماوَجُ بُؤْرةُ الحَدثِ  بيْنهم، وَتسْتشْرِي فِي المَكانِ الواحدِ ، وتتْسِعُ  رُقْعَةُ  العَواصِفِ  الدَّمَويّة إلى مَا لا نهايةَ ، تَفْلَقُ البَلدَ إلى نِصْفين، بِسَببه تَمَزّق نَسيجَ الأمْنِ الوَديعِ الذي كَانَ يَرْبِطُ بينَ النّاسِ، فَانْكَسرَ الحُبُ مرتين في عُيونِ النّاسِ مرّةً ضِدُّ الخَصْمِ ، ومرّةً أخْرى ضِدّ أنْفُسِهُم، واُجْترحَتْ برآة الأطْفَالِ، فَقدْ تَعوّدَ الطّفِلُ عَلى سِمَاع  قَعْقَعَات ِالكلاشنكوف  في هَزيم الليْل، فيستيقظُُ المسْكينُ يبْكِي  مفزوعاً  ثُمّ يستأنفُ نوْمَه مُجَدداً على ترْنيمةِ أحدِ  والدِيه .

   زادتْ الحالةُ لهذا العام  عَن حَدَّها ، أنْفلتَ الأمْنُ والأمَانُ بما لا يُقاس وبِشكْلٍ مُذْهلٍ ، اقترحَتْ الأمُّ النزوحَ والهجرةَ َخارج البَلَدِ ، لمْ تَعُدْ دِيارَ الإسلامِ  آمنةً ، بِلادُ اليورو والدولار  أكثرُ أمْناً  وسَلاماً ، الأمُّ لا تريدُ  لإبنتِها مَصيراً معلقاً  في يَدِ مَجْهولِ كالمَقَشّةِ تَعْبَثُ بِها  الرّياح هُنا وهُناك، ولا يَعْرفُ لهَا  اتجاهاً أو هدوءاً ، كانَ لها رأيُ آخرٍ غيْرَ رأيِ الأبّ في العريس “عَمُورة” هي لا تُحِبُّ العسْكرين الذين يتَباهون بِرجولتهم وأيْدِيهُم على الزّنَادِ ، رفضتْ الزيجةَ في البدايةِ  وتشبْتتْ  بالرفضِ  المُطلق… لكنّ الأبّ طيب خاطرها بالموافقةِ، وأقْنَعَها بأنّه الزّواجَ  الصّحَ والمشروعَ  الآمنً  الذي يحْمِي “سنية” مِنْ عادياتِ الأيامِ  ويحْمي أهْلَها أيضْا  مِنْ  السَطُو والتمْشيطِ المُنْتَشِر بِغَيْرِ حِساب، فَحِمايةُ المال  والحياة  والعرْض في هذه  الأيْام مطلبُ الحكيمِ العاقلِ.

   مرّت الشّهُور الأولى من العامِ الأوّل شهداً وعطراً فوّاحاً ، لكنْ في العامِ الثانيِ تبدّلَ الحَالُ، رُزقا بمولودِهما الأوّل مشوّها، وأخذ يترعرعُ بين جناحين غيْرَ مكترثين. لكنّ حياةَ النّاسِ تسْتَمِرُّ حَتّى مَع العطْب والإعَاقةِ. سَجْلت الطفلُ في منتسًوريا يَقْضي ثلاثةُ أرباعِ يومِه بين أحْضان دافئةِ حيثُ تكونُ العنايةُ علميةً وإنسانيةً متخصصة ، الطفلُ تقدّم والأمّ كانت سعيدةً بتقدُّمِه، تَفرّغتْ  لِنفْسِها فكانتْ سعيدةً بالتسّوقِ، تَقْضي وقتاً للعِنايةِ بزِينَتْها، لا تردٌ دَعواتِ المناسباتِ الاجتماعيةِ التي تُنْعشها بالجديد في المَلْبس والتسّريحةِ والنَّاس ، وليْس هُناك ما يمْنعُ هذه السيرة  اليوميّة المُمْتعة فالزوجُ رجّال يُحبُّها، يغْدقُ عَليها مِنْ الحَنانِ ضِعْفين، ومَنحْها مساحةً  كبيرةً من الانْطلاقِ والرّفاهيةِ، وكانَ والدُها  هُوَ الآخر  أنموذجا ، طِرازاً  من المُلاّك الموسِرين ، الحارس الأمين الذي يُلبّي لابنته  مَا  تُريد ، وما لا تُريد، فَهِي ليستْ بحاجةٍ  للعَمل  في ظلّ  إقتداره المَالي كصاحب ثروةٍ معروفٍ ، فمُنْذُ أشْهُرٍ قبْلَ الحدْثِ الكبيرِ اشْتَرى عقاراً مِنْ جَارِه القَديم المحاذِي لبيْته ، هدمهما لغرض التطوير، كما يقال آنذاك، وبَنى قصراً مُنيفاً جَميلاً  مَكانَهُمَا.  يُقال عنْه ، آنَدَاك ، أنّه صاحبُ “أرنبٍ”، كانَ  يقابلُ ذلك دَائماً   بِضَحْكةٍ  مُجلْجِلةٍ ،  ويُجِيب  مُسْتاءاً  أنّه لا  يَزال يَحْلم أنْ يَجىءَ اليَومُ الذي يسْتيْقظُ  فِيه صباحاً وَهُوَ يُفرّك عيْنيه عَلى فيل ضخم يسْرح ويمْرح  في حَديقة القَصْر بدلاً مِنْ أرْنبٍ ضئيلٍ  ينط  هُنا وهُناك.

   كانَ مِن عادةِ “سنية” الخروجَ مبكراٍ بعْدَ تَوْصيلةِ “فارس” في الصّباحِ نَحْو العَاشِرةِ  بالتحْديدِ ، لكنّها اليومُ ، وهِىَ تَهِمُّ بالخروجِ كان هُناك قرعٍ غيْرُ مألوفٍ مفزعٍ للجرْسِ، متواصلٍ، فَتحتْ الخَطّ  جاءَها عبْر المُضَخْمِ صوتُ نسْوي هادىءَ النبْراتِ ، يَطْلِبُ الإذنَ بالدَخُولِ لأمْرٍ أمْني عَاجلٍ ، لا يحْتَمِلُ التأجيلَ. نزَلتْ  ( سَنَيّة )مسرعةً  للخارج كأن قُنْبُلةً عَلى وَشْك الانْفِجَارِ. كانَت هُناك سيّدةٍ في الخَارجِ بغايةِ الأنَاقة بانْتِظَارِها واقفةً أمَام البابِ تبْتَسم بِهُدوء ، وهِيَ تقولُ بنغمةٍ جادّةٍ  واثقةٍ : “الحَمْد لله… عِجّلي  بِخروجكِ… هُناك خَطرٌ علي حَياتِك”!… ردّت “سَنيّة” مُمْتِقَعَةٍ وقدْ بَدا وَجْهُها الشّاحبُ في لوْن ليّمُونةٍ صَفْراءِ…قالتْ مرتبكةً :

–  خَيْر إنْ شاء الله.
–  هُناك بلاغٍ بإخلاءِ البيْت…حياتُك وحياة زوْجك فِي خَطْرٍ.

  اعتراها ذُعرُ حقيِقي ، كادت تسْقِط لولا مِنْ السّيدة الأنِيقة التي سَاندْتها، سحبتها من يدْها برفقٍ وفتحتْ بابَ السيارةِ الأمامي، وأجلسْتها طَالبةً مِنْها الهدوء قليلاً لِتقْفلَ بابَ الفيلا ثُمّت دقائق أنطلقت السيدة ببراعةٍ حتى أقربَ جِسْر التحْرير، عِنْدَها انْعَطفتْ ناحيةَ الطريقِ الدائري إلى الطريق السريع، عّمَّ بيْنهُما صمتٌ رهيبٌ ، أحسّتْ “سَنيّة” في دَاخلِها أنّ هذه هِيَ ضَرِيبةُ زوْجاتِ الأمْن فلا تَخْلو حياتُهم منْ مُنغّصاتِ، وأحْيانا ثأراتُ طارئة شخْصيّة بِسبب مِن العَدالة أو حتّى بسببِ الظُّلْم. وبَعْدَ طُول أناةٍ أخذت تُخَمّن في السيّدة الأنيقة التي تقودُ  السيارةَ بثقة، ذاتَ الطولِ والقوامِ الرشيق ، يَبْدُو أنّ وجّهَها  مألوفُ لديها، ولا تَعْرِفُ تحديداً مَتى وأين التقتْ بِها منْ قبلُ،   كانَ صمْتُها طوالَ الطريقِ السريعةِ بحثاً عَن جوابٍ لهذا السؤال، عنْدما عَجزت عَن الإجابةِ…سألتْها بِتَعَجُّب :

 “لستُ أدري أينَ رأيتكِ”؟!

  ردّتْ السيّدةُ الأنيقةُ بصوتٍ قويّ النْبراتِ واثقٍ ؛ بأنّ الله تجّلت قُدْرتُه في أنْ يخلقَ من الشّبهِ الواحدِ أربعين، ثمّ قدْمت نفسْها… أنّها من ضَواحِي المَدينةِ  تُدْعى “نرجس بن محمود”  مُنْتدِبةُ  لجهة أمنية في العَاصمة لِمدّة سنةٍ قادمة. تدْخلت السيّدة المرافقة الجَالسة فِي المَقْعد الخَلْفي بإشارةٍ من يَدها  للْخُروج مِنْ السَّريعِ عِنْدَ الجسرِ القادِمِ ، والميْل باتّجاه العُنْوان نحْوَ طَريقِ الخَدَماتِ مُباشرةً ، كانَ صوتُها فيه بَحّةً ثقيلةً ، كأنّه يَصّدِرُ  من حُنْجرةٍ  مَدْفونةٍ  في بئرٍ عَميقةٍ ، عمّ صمْتُ القُبور. فجأة أنْتَفضت “سَنية” مِنْ الكُرْسِي كأنّ وخزتْها إبرةُ  مُتسائلة  بعَجَلةٍ عن  مصير ابنْها “فارس” في المنْتسوري، وَمَنْ سَيعْتني به ؟! وكمْ سيأخذُ هذا التّحفُّظ الأمْنِي من وَقتٍ ؟! أجابتْها نرجس بِنبْرة هادئة مُطمئنة :

– لا مُوجب للقلق أبدا ؟!
– كيْف  وقدْ  سَحبّتُم جَوّالي ؟!
– ذلك  أمْنا  وتحوِّطاً… لِئلاّ  يُحددَ  مكانكِ علي الخَرِيطةِ !
– وماذا  عن طِفلي ؟!
– أنا المسئوول عنه ، ولو تذرّعتْ بالصبر، فالمَهمْة لنْ تأخذَ وقتاً طويلاً.

   مرّ اليومُ الأولُ والثالتُ، بيْنما الرابعُ كانتْ “سَنيّةُ”عَلي وشك الانهيارِ، ولوْلا مِن زياراتِ “نرْجس” المسائيةِ لهَا  لساءتْ حَالتَها النفسية مضاعفةً، فَقَدْ كانتْ تُسْلِيها وتُطمأنّها عنِ الأهْل، وتُعْطِيُّها أخباراً منتقاةً تُدْعِم معنوياتِها على أملِ الفرْجِ القَريبِ وانتهاءِ الحجزِ.  في اليومِ السادسِ زادتْ حالتُها سوءاً علي سوءٍ ، إذ أعْلمتْها أنّ “عمُورة” قدْ تمَّ التحفُّظ عَلية لأنّهُ عُرضةٌ للإغتيال السياسي ، وقدْ تمّ تفكيكَ عُلْبةٌ ناسفةٍ بِحديقةِ مَنْزلها، وعَليها أن تصْبرَ يومين آخرين لا أكثر ،  ووعدتْها  بِحلّ في القريبِ  العاجلِ ، إلاّ أنّ “سَنيّة” أنهارتْ تماماً ، واُغْمى عليها أكثرُ  مِن مرةٍ.

    في اليوم التَّالي أضْربتْ عَنْ الطَّعام، وبدا جَسْدَها يضْعَف، وأخْذتْها نوبةً هلوسة ، تهرَف بكلماتٍ، ووساوسٍ بأنّ الحَرّبَ قَامتْ  وشبّت في تلابيبِ البلْد، وأنّه لا بُدَّ مِن الهِجْرة وطلْب اللجوءِ في الخَارجِ ، و أنّها  أشْتاقتْ لِأمّها، ولابُدَّ أنّها  قد هَاجرت وتركتْها وحيدةً ، أشْفقت عَليْها الحارسةُ البدينةُ ، وأرادتْ أنْ تَدْعِمْها وتُطيّب خاطرها، فامْسكت بِكفّها بيْن يَديها  وتمْتمتْ بِدعاء  لها. رنّ جوّالُ بالرُّكن في حَقيبة نسائيةِ صغيرةِ ، سَعَت إليه الحارسةُ في لهفةٍ ، واستفاقت سَنيّة من نوْبتها، لاحظتْ انْفراج أسارير الحارسةِ ، ومَدت الجِهاز إليها لتسمعَ البِشارة مِنْ “نرْجس” نفْسها  بأنّ بيتَها وابنَها وزوجَها  في آمانٍ، ولم يبق إلأ القليلُ ، وها هى هانتْ ،   فإذا لم  يَكُنْ هذا المَساء  فإنّه  الصّباحُ الباكر الجميل.

  اُطلق سَراحث الزّوج البائسِ ، ذهبَ مُسرعاً لقصرِ حميّهِ ليطْمئنَّ علي ابنه ، ابتهجَ  أنّ “فارس”  في أفْضلِ حالٍ ، حَضَنه مرّاتِ وحمدَ الله علي صحْته وعافيته، شكرَ الجَدّ والجَدّة على كاملِ رعاية الطفل ، كان يكْتَم العبرةَ التي تكاد تخْنقه، أعتذرَ لهما عنْ مآل الحَال دونَ أنْ يرْفَعَ عيْنَيه ، وأخذَ يصابرُ نفْسَه والوالدين، ويُؤكدُ أن يَدْ العَدالةِ  قريبةٌ وقريبةٌ  بأكثرِ ممّا يمكن أن يتصورها   عقلٌ ، وسوْف تبْطشُ بهؤلاءِ المجْرمين واحداً تلو الآخر، وبيْن أنّ هُناك متابعاتٍ جادةٍ للقبضَ على الجُناة عن طريقِ شركة أمنية تتقصّي حركاتِهم  ومكالماتِهم، ولكن للأسف لم تُسْفر  عن نَتيجة حاسمة  حتى هذه اللحّظة ، وأوضحَ  أنّ هؤلاء المجرمين محترفون ، عتاة ، لا مفرّ مِنْ النّزُول عند  طلْبهم الظالم ، مؤقتاً، وتسْليمهم المبْلغ كاملاً    في  المَكان والزمان المحددين. في ذلك وحده فقْط إنقاذ لحياة “سنيّة”، ثم توجّه للسّيدة حماته مصابراً أيّاها  بعهده بنبرة الاستنكار  :

ــ   هددوني… الأبالسة إن تأخرتْ بقتلها .

  صرختْ الحمّاةُ  وأخذتها موجةُ من البكاء كالأنين أو أنين كالبكاء ، نهض “عمُورة” واقفا يُزمْجر ويتوعدُ بصوت موزون مرتفع قليلا :

ــ   لا يدرون المجرمون أن يد العدالة قريبة وقريبة جدأ.

 استوقفه  سيّد البيت حموّه مؤكدا قوله :

ــ   ولا يدرونَ  أنّ عيْنَ اللهِ تراهُم ويدُ العدالةِ قريبةً جداً.

… ثم أضاف بصوتٍ متهدجٍ بالكادِ أن يتَماسك ويُفْصح عنْ مُراده قائلا  :

 ــ   المبلغ الذي سيفدي ابنتي سنية سيكون جاهزا  الخَامسة مَساءَ اليوم.

 … اغْروْرقتْ عيني “عمورة” بالدّمع  مُبتهِلا بالحَمّد والشّكر ثُمّ صائحاً مُجلْجلِاً بصوْتٍ جهورٍ كأنّهُ في مَيْدانِ حرب شوارعِ  :

  ــ   لنْ يفلتَ المجرمونَ أبداً  مِنْ يَدِ العدالةِ وعينُ اللهِ ليْست بِغَافلةِ .

  صبيحةُ اليوم التالي، عنْد انبلاجِ الفَجرِ بيْنَما  الّلونِ اللأزوردِي يصْبَغ السماءَ الصافية ، كانتْ هُناك طرْقَاتٍ قوية نافرة علي البَابِ الخارجيِ وقرْعُ متواصلُ للجَرْسِ ، خرجَ  الغَفيرُ مَفْزُوعاً ، ونزلتْ  السيّدة الدرجاتِ القليلة مسرعةً ، فُتح البابَ على عجَلٍ لمعرفةِ  الطارق ،  وقد بلغْت القلوبُ الحَناجِرَ، وإذ بشَبْح يرْتجفُ ملفوفاً بِلحَاف يسْتندُ عَلي الباب بتتُاقل، أمّسَك  الغفيرُ  البابَ بيَدْ وحسَر اللحَافَ عَنْ الوَجّة وأخذَ يصّرخُ  بصوتٍ مختنقٍ : “سنيّة المسْكينه.. سنيّة المسْكينة… الحَمّد لله”.

  قضت “سنية” خمْسةُ أيامٍ أخري في المَصحّةِ ، استعادتْ عافيتَها، وجرى الدّمُ في عُروقِها،، وأوصي  طبيبُها  المُشْرف في  تقريره الطّبي بِضُرورة المُتابعةِ النفسيةٍ علي يَدِ أكُفّاء ، لتحريرِ عَقْلِها  من أثارِ الرَضّةِ.

   أياما  واستأنفتْ “سنيّة” سيرتَها الأولي مُبتهجةً سعيدةً بوالديها ، كأنّ لم يكنْ شئيا ، كابوسٌ وقدْ انْزَاح  وأنتَهى لغيْر رجعةٍ ، بدأتْ من جديدٍ تراقبُ “فارس” وتُتابِعه عن كثبٍ تَقدُّمه في  المنتسوري، ماضيةُ أجملُ الأوقاتِ بعطفِ ومساندةِ الشّهْم “عمُورة” الزّوجُ البَار والصّديقُ الأنسانُ، ولكن ذات يومٍ في المنتسوري، وقد تعَوّدت اسْتلام  تقارير دورية عَنْ  حَالةِ  ابْنِها، اُخبرت أنّ هُناك في الأمَانة  رسالةُ على الخاص باسْمِها ، أحْضَرتها سيّدةُ أنيقةُ منذُ  يومين ،  كانت تتابع “فارس” اثناء غياب أمه.

    أندهشت “سَنيّة” وانفردتْ في رُكْن المَكتب ، وطفقت تُفتشُ  الرسالةَ على مَهْلٍ،وتتقَصّى ما بالمَظْروف ؛ عبارة عن ( كاسيتْ )صغير فِي طيّة قُصاصة موجزةٍ ، أخذتِ تلتهم سُطورَها ، توَقْفَ الدّمُ في عروقِها مرتين، ثُمَّ  تمالكتْ نفْسَها مِنْ جَديدٍ ، طلبتْ كوبَ ماءٍ، وأعادتْ القراءة من جديدٍ، ووقفت كأنّها كائنُ رُصّ من حديدٍ ، ثم طوَتْ المَظْروفَ، ودسّته في جيبِ حقيبتِها ، جاء “فارس” بِصُحْبةِ مُدرّستهِ  من رُدهةِ المدْرسةِالداخليةِ إلى مَكتبِ الاستقبال حيث كانت أمُّه بانتظارِه، ومَا أنْ لمحْها الصغيرُ حتى قفزَ فَرِحاً مُسْتبْشِراً لرؤيتِها ، حَضَنَتْهُ وغِشَاوةَ مِنْ الدْموعِ  تَمْلأُ مُقْلتَيهَا  تكادُ تفيضَان، مسَحتْ دُموعَها ، وأخذتْ شهْقةً عميقةً ثُمَّ زفرةً طَويلةً و “فارس” في حُضْنِها تغْمُرُه  بحَنانِها الفيّاض ، تمْضِي  كَسَهْمٍ شاردْ  عبْر دُرْجَاتِ المَدْرسة الخَارجيّة.

     في  وهْج  الظهيرةِ ، فكّرت  جيدا ،  وطلبتْ أباها العطوف بحضور والدتها ، قالتْ أنّها  تريدُ أن تطلعَهما علي سرِّ وأنْ يبقَ ويظلَّ سراً. أعلمتْهما أنّها مَدَينةُ في الأيّام الماضية ، أيام خَطْفها وحجْزِها لسيّدة أنيقة وقفتْ معها ،  ولحاجتها  المَاسّة  للمَال  قبِلتْ بِعمل أمّنِي ، نظيرُ راتب جزلُ ، كانت تريده لِتُؤمّنَ علاجاً لوالدتِها بالخارج، لكنّها  اكتشفتْ بالصُدْفةِ أنّها  ضحيّة غدْر  وأحتيالٍ  للمدعو “عُمورة” قائد  ” ميليشيا عمورة  ” المعروفة. ثم  انهمرتْ ( سَنيّة  )  بالدّمُوع  وفي بكاءِ متواصلٍ مريرٍ  تتقطعة العَبْرة  وسْط ذُهول وارتباكِ  والديِها،  فجأة  على غير  توقع ،  توقف  البكاء  … لم  تمسح دموعها  وبنظرات نافذة  قوية تسْتجْلي  العَالَمَ   خَارج  النافذةِ ،  تمدُّ شريطُ  كاسيت  صغيرُ لوالدِيها  وتقول  :

ــ  في هذا الكاسيت يسْكُنُ  دليل خُدْعة ومُؤامرةٍ.

_____________

  *   كاتب وأديب من ليبيا/ نشرت في ليبيا المستقبل.

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *