التراث الشعبي.. منْ إعَادةِالحكاية إلى هُجنة الكتابَة في الرواية المغربية

د.يوسف ناوري *

 
خاص ( ثقافات )
(1)
الموروثُ والثقافة الشعبية ضمنا من الموضوعات الأثيرة في تناول الرواية المغربية الحديثة وبناءاتها. فهو يمثلُ دلالات شتى ويَحضرُ بطرقٍ مختلفةٍ وعلامات لا تخفى في نصوصها، امتلك فيها معاني الوعي بالذات والإحساس بالانتماء، وجَسّدَ في عدد منها صيغَ حكي وتَخيُّلٍ مصدرُها المتون والسّجلات اللغوية والقصصية التي ما زالت متداولة بين الناس – وفي حياتهم المجتمعية الراهنة. يتبادلونَها خُرافاتٍ وسِيراً وأمثالا. ففي الروايات التي كُتبت بالعربية (وبالفرنسية على حد سواء) حاول الروائيون المغاربة بناء مَحافِلَهم؛ ومن ثمتَ وجدانَهم الفني؛على أساس ذخيرتهم الثقافية الموروثة وبانفتاح على أجناس أدبية حديثة مختلفة وفي اتصال بتاريخ جسدهم الرمزي. أفادوا من تأثيراتها وإيحاءاتها، واشتغلوا بها ضمن قواعد فنية وغايات إنسانية وجمالية نلمسها في نصوصهم الروائية التي جعلوها معيشَ حكيٍ عن الموروث وعن المتخيل النّاشىء، وذاكرةً مستعادة من تاريخ المكان وفعلِ الإنسان.
لقد حرص الروائيون المغاربة منذ بواكير إنتاجهم الإبداعي على استعادة الفضاءات وتجارب الحياة التي عاشوها. شكلوها بعناصر سردية وبتوليفات سير – ذاتية مختلفة تقاطع فيها الروائِيُ مع ثقافة مجتمعية وتراثٍ شعبيِّ الأصولِ والامتدادات. اختبروا عُمقَها الوجداني قبل أن يستقرَّ مُتخيلهم الروائيُ على طريقة تتفاعل فيها أساليب البناء المُحدثة مع ذاكرة الجسد في تاريخه وثقافتِه ومع صورِ الذات واستيهاماتها التخيُّلية. ولما كان تراثُهم الشعبي والسردي من أُسّ ثقافتِهم ومرجعَ معرفتِهم فقد حضرت إشاراتهُ ومؤثراتُه إلى متون الرواية منذ بداياتها الأولى في المغرب. في مرحلة أولى بخجلٍ، لأن الغاية كانت الإشارة إلى عناصر التاريخ والانتماء التي تحملها هذه الثقافة رُغمَ النظرَة الدونية إليها باعتبارها من مظاهر التخلف الذي يعيشه المجتمع. فلدى أكثر من روائيٍ (عبد الله العروي مثلا) لم تكن هذه التعبيرات الشعبية جديرة بالحضور وأن تكون مُجسّدةً في النص الحديث. وفي مرحلة ثانية (وربما بتأخر ملحوظ) انتقلت هذه العلامات والعناصر الشعبية إلى الإعلان عن نفسها في متون الرواية المغربية. بتوظيف فني سمح بالتباسها وتداخُلها مع باقي العناصر الثقافية والفنية وبتحقيق الإضافة الجمالية للبناءات المتخيلة. فالوعي –بالأساس- المجتمعي للمُتخيل وللتعبيرات اللسانية في صيغتها الشعبية، والتفطُّنُ للوظيفة التاريخية والنفسية للإبداع الثقافي الشعبي؛ والدور الذي قام به في تشكيل النسيج المجتمعي المشترك في اعتباره ضمانة تآلف واستمرارية الذات التاريخية والمجتمعية؛ وجهَ الكتابة الروائية إلى ضرورة الحفاظ على استمرارية حضور الأثر الشعبي في تعبيرها الفني والاستفادة من طرق تفاعلها وتفتيق أساليب الخيال الروائي عن طريقها.
فكيف وبأي طريقة وسؤال حضر التراث الشعبي في الرواية المغربية؟ ما هي الأنماط الثقافية الموروثة السائدة في بناءات الرواية المغربية وسجلّاتها النصية؟ وما هي أشكال ومظاهر تفاعل الروائي معها ومع الموتيفات والعناصر التاريخية التي حضرت برفقتها إلى سجلات الذاكرة؟ هل اقتصرت على تلك التي مصدرها التراث الشفهي؛ أم أنها انفتحت على كل سجلات الذاكرة من تعبيرات وسلوكات أفراد وتقاليد مجتمعية استثمرها الروائيون ونقلوها إلى رواياتهم بما هي مُكَوِّنٌ لازمٌ في هذه الثقافة؟
(2)
نطرح هذه الأسئلة ونحن نقف على أخرى أكثر منهجية بالنسبة للدرس ومراجعة حضور الثقافة والموروث الثقافي في الرواية العربية وبناءاتها. فالعلاقة بالتراث الشعبي من حيث هو مجموع التعبيرات والقيم والتقاليد الثقافية والمجتمعية التي سادت بين الناس في مجتمعاتهم؛ وكانت طريقة لهم في الحياة والوعي؛ كانت دائما موضوع تأملٍ ودرس ومراجعة. فالقول بالتراث الشعبي يعني الإحالة على تعبيرات الأدب الموازي (الشعبي) من أشعار وقصص وأخبار وأساطير صيغت في لغة دارجة وسجلات لسانية جهوية مخصوصة.. وفي الوقت نفسه يتضمن معنى الثقافة الشعبية باعتبارها مجموع مظاهر الاحتفال المعروفة بالفلكلور. في اختلاف هويته وتَوَزّعِهِ بين أداء شفهي وتقاليد متوارثة وطقوس احتفال واستعراض. بعضها ما زال حاضرا في معيش الناس ضمن عاداتهم وتقاليدهم وطرق تعبيرهم وسجلاتهم اللسانية في تعدد أصواتها ومتونها؛ في لهجات ومعجم وتراكيب شتى.
فإذا كانت الروايةُ بناءا فنيا مخصوصاً بالحكي في بنائه السردي (بحدث وشخصيات وتَشكُّلات فضاءٍ وزمنٍ وأمكنة)؛ وإذا كانت الثقافة الشعبية مجموعَ العناصر والمظاهر التي تداولتها المجتمعات وجعلتها جانبا من ثقافتها اليومية؛ وفي الوقت نفسه تعبيرا لغويا أو احتفاليا عن ذاتها الجماعية؛ فإننا نقصدُ باشتغال الثقافة الشعبية في الرواية المغربية حضورَ مجموع عناصر ومظاهر هذه الثقافة في المتخيل الحكائي بما يعكس العلاقة بالتراث الشعبي في اعتباره تعبيرا عن الهوية وعن الارتباط بالمجتمع وسجلاته الثقافية والتعبيرية في بناء فني مخصوص. ولقد أينعت هذه الرؤية بالفعل في عدد من روايات المغاربة حيث حضرت الثقافة الشعبية بمكوناتها التعبيرية والفنية، وعكستْ من ثمة صلة الكتّاب بالذاكرة وبالتاريخ وبالزمن الذي يعيشون.
(3)
لقد كانت العودة إلى التراث الشعبي طريقة أخرى جسّدت بها الرواية العربية بُعدَها الأصيل والذي أرادَتْهُ في صميم بنائها الفني: أُسَّ مُتخيلٍ تتفاعل ضمنهُ أشكال الحكي القديمة والحديثة؛ وإعلانَ انتماء وقرب من الأزمنة ومن الوطن. صحيح أن الروايات المغربية لم تنجح كُلُّها في الحوار السعيد بين ماضي الذات كما تمَثّلتْهُ في تراثها الفني والشعبي، وبين حاضِرِها في مُتطلباته.. ولكن نماذج أساسية منها استطاعت أن تكتب من خلال ثقافتها وتراثها الشعبي عوالمَ فنية ومحافلَ وأحداثا وشخصيات قمينة بتطلعات الرواية العصرية. كتبتْ هذا التراثَ الشّعبي وهي تستوحي تعبيراتِه الأساس من حكاية وسيرٍ وخرافات،وأعادت صوغَهُ ببناءاتها الفنية الحديثة من خلال:
1. الحكاية الشعبية: ونعني بها القصص والأخبار التي تداولتها الذاكرة الشعبية واستمرت حاضرة في متخيّل الناس. كثيرةٌ هي الروايات التي استلهَمتْها كُلِّياً أو جزئيا من أجل الإفادة من رمزيتها ودلالتها، ولعل في مقدمتها (وربما أهمها) رواية مبارك ربيع “بدر زمانه” (1983). فهذه الرواية تعرض منذ عنوانها للصلة الوثيقة التي تقيمُها مع التراث السردي العربي.. سواء في متنه العربي المشترك أو في تعبيراته الشعبية. فهي تستوحي من ألف ليلة وليلة إطارَها في توجيه الحكاية، وتتماهى معها في تسمية شخصياتها أسماء قريبة منها: شهراموش وبيروز وروزباه. الأولان بخاصة يُشيران بوضوح إلى شهريار وشهرزاد من كتاب الليالي.. بل ويضيفُ مبارك ربيع بُعدا آخر تمثَّلَ في كراهية شهراموش للمرأة بعدما وقفَ على قتل أبيهِ لأمه جزاء خيانتها. وهذا التضافر الفني بين الأسطوري والواقعي (النصي والديني) في حكاية مبارك ربيع يتجلى بقوةِ الحبكِ في حُلمِ ساقهُ الكاتبُ على لسان (أحمد) الذي بعد مضاجعته لزوجة أبيه رأى: «فَطُّومَة الآن واقفةٌ تشرح بعبارات واضحة للحاج المهدي وقاحة فلذة كبدِه أحمد عليها، تروي قصة يوسف وزليخة الفريدة في بابها. أحمد يقف جامدا، أمام الحاج مهدي المتأبط سكين عيد الأضحى، ينظرُ حواليه؛ فجأة ينزل السكين على نحر أحمد، يغرزه إلى الأعماق حتى يطل رأسه من الظهر… الحاج مهدي يستل سكينه من النحر، يرفع كيان أحمد الدامي من شعر الرأس بيسراه كأنّه يقيمه، ثم يضرب العنق بحد السكين من اليسار إلى اليمين، ضربة بتار تفصل الرأس عن الجسد».
كما تجلى أثر وتضافر وقعِ ألف ليلية وليلة على الرواية في تكرار الكاتب لحيلة استقدام الحكيم لجارية (بيروز) إلى مجلس الحاكم المتسلط (شهراموش) من أجل تعليمهِ وتهذيبه وضمان إعادته إلى السيرة الإنسانية. عن طريق الحكاية والموسيقى، وعن طريق مجالس الأنس والخمرة.
وإذا كانت الإشارات لازمة إلى أن أول من استفاد من هذه الحكايات من الروائيين المغاربة هو مبارك ربيع فإن النموذج الذي يقدمه لنا (الميلودي شغموم) دالٌ بهذا الصدد على انفتاح المحكي الروائي المغربي؛ لا على الثقافة الشعبية وحسب بل وعلى التراث الشعبي العربي برمته وبآفاقه. فروايته “عين الفرس” (1988) استقت هي أيضا نموذج مَحْفَلِها من قصص ألف ليلة وليلة بخاصة. لا في القصة الإطار؛ حيث استلهمت بداية مسار الحكي وضرورته بتشكيل مجلس (على غرار مجلس شهريار) تولدت فيه الحاجة إلى الحكي من رهبة الرواي (محمد بن شهرزاد الأعور) وخوفا على نفسه من غضب وبطش (الأميرال)؛ ولا في الحكايات الفرعية كقصة (قصة الولد الضال والرجل الطّيب). والحال أن اختلاف الغايات وجَّهَ حَكْي القصصِ وطريقةَ السرد في “عين الفرس” بخلاف ألف ليلية وليلة. فإذا كانت شهرزاد تروي قَصصَها لتحفظَ حياتها ولمُتعة الحكاية؛ فإن الراوي في “عين الفرس” رغم حذره ورغبته في الحفاظ على سلامته يتعرض للعقاب والنفي إلى عين الفرس بعدما حمّلهُ الأميرال مسؤولية الأحداث وعواقبها في قصصه.
ولعل في نموذجي الميلودي شغموم ومبارك ربيع من تأثيرات الحكاية الشعبية ما يُفيدنا بالغاية الأساس التي توَخّاها الروائيان من الكتابة ومن الرواية الحديثة. في أن تكون فعلاً من أجل التغيير وتحويل المعرفة (الحكاية) إلى سند حياة وحماية لها ضد الظلم والاستبداد.. رغم الاختلاف بين الحكاية القديمة والنص الروائي الحديث.
2. السيرة التاريخية: تشكلت في النص الروائي المغربي عن طريق التناص وتداخل الحكاية التاريخية بمنظور شعبي مع تعبيرات الفن الروائي الحديث. عمل الروائي بنسالم حميش باكرا في اشتغاله على السير التاريخية في رواياته (مجنون الحكم، والعلاّمة، وزهرة الجاهلية) على تقديم نماذج أساسية لطالما ترددت بين يدي القارئ العربي. في روايته “العلاّمة” (1997) بخاصة كتبَ بتخييل فني ما عاشه المؤرخ المغربي عبد الرحمن بن خلدون. فاستعاد سيرته وتاريخه الثقافي واستحضر من كتابَاته ومن أقوال تلاميذته الاستشهادات والتعبيرات لإيقاع الوهم الروائي في الحقيقة التاريخية التي حاول كتابتها سيرة روائية حديثة.
ولكن أحمد التوفيق من جهته وضع روايتَه “جارات أبي موسى” (1997) في طريقٍ أخرى من طرق استثمار التراث الشعبي، إذ انتقل بالسيرة الشعبية التي وظفها من وهم الخيالي المُتحققِ بالنص إلى حقيقة السيرة كما يمكنُ لكلِ قارئ أن يَفْتَرِضَها في التاريخ. اختار لروايته شخصية المتصوف أبي موسى (كثيرون هم متصوفة المغرب الذين يحملون هذه الكنية) ليقول في سيرته المُتَخيلةِ كراماتِه الخارقة والأحداثَ التي عرفتها مرحلة بني مرين من تاريخ المغرب في القرن الثامن الهجري. دعّم أطروحَتها بيراع الخيال في تناول فني وتجريبي للأحداث التي عاد فيها إلى علاقات السلطة السياسية بالمجتمع؛ وبالخصوص إلى ما كان يمور في مجالس السلطان من صراعات ودسائس، ومن أخبار الجواري وحاشية السلطان.
ومن مكان آخر تناول نفسُ الروائي أحمد التوفيق علاقة المغاربة بفن الموسيقى الأندلسية في روايته “غريبة الحسين”(2000) من خلال ثلاثة أصوات تقول مسار بحثٍ عن نوبة موسيقية معروفة باسم “غريبة الحسين”عرض من خلال البحث تاريخ التراث الموسيقي المغربي في انتقاله بين يدي الرُّوَاةِ و”الصّْنَايْعِية”، وفي افتتان المغاربة بجماله وجلال قصائده.. استطاعت هذه الأصوات الروائية أن تعكس لنا تجربة فنية إنسانية؛ وأن تنقلُ إلينا موقف الكاتب من التاريخ ومن القيم الثقافية السائدة، ومن الآخر في الوقت نفسه. من منظور مجتمعي تارة، ومن تحليل فني جمالي لبناء النوبة الموسيقية..
إن محكي التراث الشعبي في روايات أحمد التوفيق يتشكلُ بمتخيل تاريخي في صيغ كرامة صوفية أو توظيف لأسماء أو قصص فرعية ومأثورات؛ سرعان ما تفيدُنا بثقافة مجتمعها وزمنها وتعدُّد أصواتِها وخطاباتها.
من أولى الروايات التي ضمّنت الموروث الثقافي في بنائها “دفنا الماضي” (1967) لعبد الكريم غلاب. واضحٌ في استعادة الرواية لمظاهر من الثقافة الشعبية المتوارثة في المغرب تَطلعُ الكاتبِ إلى تعضيد أطروحته في تشكيلِ الهوية الوطنية وتماسُكها تُجاه ما يتهددها من استعمار وتبخيس الذات، ومن مظاهر التبعية والتخلف. وإذا كانت كثيرةٌ هي السجلات التي حملتها الرواية من الموروث الشعبي ومن تفاعل الشخصيات بثقافته، فإننا نقتصر على الإشارةِ إلى بعض الفضاءات التي بناها عبد الكريم غلاب كمحفلٍ روائي تجري فيه الأحداث وتُصرَّفُ المواقف. ففضاء الكُتّاب القرآني بما هو مَهد النشأة والتعلم عند الطفل المغربي إلى عهد الاستعمار؛ وقد أدى أدواراً في حياة المغاربة وعضد أواصر انتمائهم الديني والثقافي وصهر علاقاتهم الاجتماعية، استعاده الكاتب فضاءا مختلفا. فهو لم يُخفِ ما غلّفهُ من عنفٍ وإكراهٍ عانى منه الأطفال؛ ورسمه في مشهدٍ مُرعبٍ لقلوب الصغار وهم يُتابعون حفظهم للقرآن والمتون اللغوية على يد “الفْقيه”، وفي الوقت نفسه يتوجّسونَ من عقابه أو مِما قد يَعقبُ انتباهه بعد لحظة شرود.
وشكلَ الاحتفالُ الكناوي مَحفلا آخر يمتدُ إلى التراث الشعبي بأصوله وينطلق في امتداداته الراهنة بالرواية. مَثّلهُ الكاتبُ في لوحات الغناء والرقص الجماعي كما لا زالت تعرضها المجموعات الغنائية الفنية “كناوة”(التي تعود أصولها إلى تاريخ قديم كان وصل فيه عبيد غانا إلى المغرب). وهذا الغناء بقدر ما يفيدُ برافدٍ أساس في الثقافة المغربية مصدرهُ إفريقيا؛ اشتغلَ في رواية عبد الكريم غلاب بطريقة أقرب إلى الاستعراض الفلكلوري. ولعل في رغبة الكاتبِ الوصولَ إلى ملحمة الرواية ما جعلهُ يركز على المظاهر الاحتفالية والجوانب الخرافية والأسطورية وعلى العجيب ضمن الرؤية التي كان المجتمعُ يحملها تُجاهَ غنائيات “كناوة” باعتبارها من التقاليد والمعتقدات الشعبية.
وفي اختيارٍ تجريبيٍ مغايرٍ يُمكن رصد تجلياتٍ للتراث الشعبي لدى محمد عز الدين التازي الذي سعى دائما إلى تأكيد علاقته بالثقافة العربية والمحلية القديمة في كتاباته السردية. اشتغل عليها تداخلاً نصيا وحوارا معرفيا، وكشف أثناء ذلك عن موقفه منها ومن العالم تماهياً وانفعالا. في ثلاثيته “زهرة الآس” (2003)؛ وفي روايته “المباءة” (2005) بخاصة؛ خاضَ محمد عز الدين التازي في تواريخ مدينة فاس المغربية، ومن خلالها في تواريخ الأجساد وهي تُعلقُ أو تُحرقُ أو توشمُ لتقول بها الرواية صراع السلطة؛ صحيحٌ؛ ولكن ايضاً عوالمَ السحر والعجيب (قصص الأبواب ووشم الأجساد وحرقها) ومظاهر القدسية واللجوء إلى الغيبِ وأسراره (الضريح، القبور، خطابات ومواكبُ المتصوفة). كتبَها الروائيُ مُستعيدا ثقافة شعبية محلية ومتطلِّعا ببنائه الفني إلى أخرى حديثة تتوق إلى التحرر المجتمعي وإلى الانعتاق في هُجنة العوالم الفنية.
(4)
لعب التراث والثقافة الشعبية دورا أساسا في تأكيد هوية الروائيين المغاربة. فعن طريقهما تشكلَ منظورهم إلى الذات وإلى معنى الانتماء إلى زمن ووطن بتقاليد ووعي مخصوص. هو نفسه كان منذورا للتشوش والاهتزازات السياسية والاجتماعية، وحيث التطلُّعُ إلى التحديث لا يمر بالضرورة بسلاسة الوعي بالماضي وتراثه في مقابل الحاضر ورهاناته. بل باختبار بدا للكثيرين أليماً بين ثقافة عربية إسلامية مغربية، وأخرى أروبية متعددة في حضورها وضغوطاتها. وإذا كانت إبداعاتُ عددٍ من الروائيين المغاربة اختارت الرهان على استلهام الأساليب الفنية الأجنبية، فإن جل الروائيين المغاربة الذين كتبوا بالعربية ركبوا طريقا وُسطى في العودة إلى ثقافتهم الأصلية والشعبية ضمناً، والاستعانة بمقترحات وتقنيات السرد الحديثة التي استعاروها من قراءاتهم وترجماتهم للرواية العالمية.
____________
* أكاديمي وناقد من المغرب
* تنشر بالاتفاق مع مجلة الفجيرة الثقافية.

شاهد أيضاً

أبورياش: المثقف معني بكل شيء في وطنه وعليه إشعال المزيد من الشموع لإنارة الطريق

الأديب موسى أبو رياش: المثقف معني بكل شيء في وطنه وعليه إشعال المزيد من الشموع …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *