الحاجة إلى الرواية


*أحمد الواصل


.. إلى أي زمن تنتمي روايتنا؟، وأي تاريخ تريد تأويله بينما ترفضه؟، وأين يَكءمُن معنى التاريخ في الرواية؟، وأين يكمن معنى الإنسان في التاريخ الذي تريد أن تأوِّله الرواية؟.
.. ربما هذه الأسئلة ترد على كثير من الروايات العربية، وليس المحلية فقط، وربما استطاعت الرواية المحلية، رغم معوقات الولادة وفجوات الانقطاع، ما بين التأخر والانفصال عن الزمن والإنسان إلى أن تضع حداً لوجودها لتكشف عن إنسان الزمن في هذا الآن والأوان.
.. تشبه الرواية في بداياتها الإنسان وحضارته في الجغرافيا والتاريخ، وما يمثلان من لحظة حضارية بما يتتابع ويتراجع عند الإنسان من مستويات الفعل الحضاري سياسياً وثقافياً واقتصادياً ودينياً وعمرانياً وما سواها.
.. إذن، هل يمكن أن نسأل عما إذا كنا نحتاج إلى الرواية أو إلى أن الرواية باتت تحتاجنا؟، وما إذا كانت لحظة الفعل الروائي تحدد رغبة المشاركة بين الروائي والقارئ، بعد مستوى الراوي والسامع، وتدعو إلى اكتشاف التجربة وعرض الخبرة، ويتمثل في هذه العلاقة المشترك اللغوي والمجازي، الحلم والواقع، والوعي واللاوعي، وما يمكن أن ينتظم ضمن عقد ثقافي ما بين الاثنين روائياً وقارئاً يحتمل الروائي وجوهاً ملتبسة واحتيالية بين شخصيات الراوي وبطل الرواية وضمير المخاطب والغائب، وبين وجوه شكوكية وتساؤلية، تلتذ بإغراء المخفي والمسكوت، عند القارئ والناقد والمؤرخ والدارس..
.. بين هذه العلاقة تنكشف العلاقة بين الإنسان وزمنه، وبين ذاكرته وسرده، وبين ما تحتمل هذه العلاقة لتحديد لحظة الحدث الإنساني والممكن روايته وحفظه، وربما التذكير به وتسجيله، وهذا ما يملي على الطرف الآخر قراءته وتذكره، وهو بين الاحتمال والممكن، وبين الواقع والمتخيل، ويتحكم في درجاته وعي ولا وعي، وهذا ضمن عقد اجتماعي-ثقافي يدفع إلى تعبير وكتابة يؤسِّس ذاكرة وكتابا.
.. إذن، الحاجة والرغبة إلى الرواية تقوى كلما مضى الزمن ليبحث الإنسان عن معنى وجوده، وبالتذكر والكتابة يعبر عن ذلك الزمن في الذاكرة وليس كل الزمن، لاستحالة الإعادة الآلية، ولكن يتاح استعادة المفترض بين الحلم والواقع، والممكن حدوثه بين السبب والنتيجة، وربما تكشف تلك الإجراءات بغير آليةوإنما انتقاء واختيار في تقنيات ومقدرات ذلك التاريخ وتأويله من الزمن، وذلك الإنسان ومعناه بين البشر.
.. وما يميز الرواية المحلية عبر ملاحظات عامة بأنها ولدت من انعدام النموذج السردي وإنما تنتمي إلى صورة مجتمعها وتناقضاته، وعرضت عبر أشكالها وأنواعها إلى مدارس وتيارات متعددة بين الداخل والخارج كذلك كشفت التلقيات والقراءات عن تباينات حادة في مستوياتها الوعي النقدي وتهافت القراءة المكشوفة النوايا.
.. يمكن أن نقول: “تنتمي الرواية العربية على مستوى الكتابة، إلى زمن حداثي كوني، وتنتسب، على مستوى القراءة، إلى زمن تقليدي أو هجين الحداثة، كأنها، رغم بطولة المتخيل والكتابة، تنتظر جمهوراً محتملاً، لم يأت بعد” (فيصل دراج، الرواية وتأويل التاريخ، 2004، ص: 36).
.. وهذه المقولة تعطي لنا بعض ملامح الطريق بين السرد وقارئه كما توضح اللحظة بين تطور السرد ودور الروائي، وعن مستويات تاريخ السرد وفعاليته وأدواته وعناصره كذلك مكوناته ومدياته.
.. وربما تؤكد لنا لحظة الشعور بأن الرواية مصدر معرفي في أحد مستوياته مثلما هي تمثل جنساً أدبياً يحمل معالمه الجمالية وأساليب كتابته، وملامح شخوصه وأحداثها، واتجاهات أفكاره وإيديولوجياته، فهي تمثل تلك لحظة الشعور بأن هناك حاجة على المستوى النفسي والسلوكي في التعبير عن تجربة ونقل خبرة بالكتابة السردية، وتقابلها حاجة اجتماعية وتاريخية لحفظ الذاكرة في كتاب.
الأسلوب إرادة السرد
.. إذا كانت الرواية تمثل جنساً أدبياً يحمل طابعه ويكشف عن قدرة وضع حدود بين الواقع والحلم في كثافة المتخيل، واختيار الموضوع والشكل، فهي تستطيع أن تتيح بين المتشابه والمتكرر، والممكن والحاصل شخصية الكتابة، فإن الروائي/الروائية هو من يضع للنص تاريخه، وشخصيته في أدائها تكوِّن الطابع الذي تحمله الرواية ويمكن أن تصنف به على مستوى ما تمثله من تيار أو اتجاه ومن ثم مدرسة أدبية في عالم السرد.
.. وربما تكشف حالة السرد تباين الأسلوب بين عبد الرحمن منيف وتركي الحمد في تأويل التاريخ وتمكنه من الذاكرة بين: “مدن الملح، أرض السواد” لمنيف وبين “أطياف الأزقة المهجورة، شرق الوادي” للتركي مثلما يمكن أن يكون الحدث لحظة وعي وفعل نفسي ثقافي يشترك في أن يكون الحدث منطلقاً أو مرتكزاً تحولياً بينما يختلف في التناول والصيغة أو الموضوع والشكل مثلما كان بين إبراهيم الخضير ويوسف المحيميد بين ما تمثله: “عودة إلى الأيام الأولى” للخضير و”القارورة” للمحيميد، وهذا ما يجعلنا ندخل إلى مستوى آخر من تناول قضايا الإنسان مثلما يشترك الهم النسوي والفعل الثقافي بين أميمة الخميس وبدرية البشر في دور الأنثى وصورها بينما يختلف في وضعها العائلي وظرفها التاريخي بين “البحريات” للخميس و”هند والعسكر” للبشر، وإلى عرض صورة الآخر وما ينتمي إليه من أقلية وعنصر بما تمثله من قيم أخلاقية وثقافية وتاريخية وجغرافية تشترك في اختيار العنصر وتتباين بحدة في مستويات التعبير عنه والنظر إليه مثلما فعل محمود تراوري في “ميمونة” وليلى الجهني في: “جاهلية”، ويتصل بهذا تناول الطائفة والإقليم والجنوسة بما تمثلته: “الآخرون” لصبا الحرز مقابل تناول الخرافة والخارقية واللامرئي أنثوياً وذكورياً بما تمثله روايات رجاء عالم، وتناول قضايا فئة عمرية وهواجس الهوية ومعرفتها الجنسية في: “الدود” لعلوان السهيمي.
.. واستطاع توالي النصوص السردية في كشف منابع السرديات والحكايات، وما تتصل أو تنقطع عنه إلى عالم الأدب وفنياته، وهذا ما جعل زخماً كبيراً لحركة عوالم حكي وقص وسرد تتابعت منذ الحكاية الشفوية في السالفة والسبحونة والحدوتة والخبر والحادثة، والحكاية المكتوبة في القصة القصيرة والرواية وعناصرها المشتركة مع المسرحية والفيلم السينمائي والتمثيلية الإذاعية والمسلسل التلفزيوني التي انطلقت من تعدد عوالم الحكايات والأخبار والقصص مقابل ما تتقارب وتتقاطع مع عالم الشعر دائماً في القصيدة الحوارية والقصصية، وعالم الصحافة في الخبر والتقرير والمقالة والرسالة، وعالم الصورة في السينما والتلفزيون وعالم التدوين في المدونات الشبكية والمنتديات وسواها.
.. استطاعت الرواية أن تبني تاريخها عبر مراحل تطورت من عالم الحكي إلى عالم القص وصولاً إلى عالم السرد، وهذا الأثر يتضح عندما تعرف الدوافع والمقدرات عبر زمن طويل ومتقطع ومظلم وملتبس في تاريخ الرواية المحلية، واللحظة الآنية من تاريخ المجتمع وسياساته وثقافته تكشف مستويات تنطلق معها الرواية من تاريخها وتؤوله، وتعيد بناء ذاكرة موازية تستثمر منجزات ثقافية تتصل بالأدبي والفني من الفردي والجماعي، والعلمي والنظري من الإنساني والاجتماعي.
.. إذا كان الأسلوب إرادة السرد كما يمكن أن يكون شرطه فإن مجازات اللغة الأدبية السردية أتاحت إنتاج مجازات عدة يمكن رصدها على مستوى هموم الكتابة السردية وطموحاتها بما تمدها الخبرات من تكوين تجربة وشخصية أدبية في السرد يتمثله الأسلوب بصوره المجازية في مجاز اللغة وجمالياتها البلاغية كما عند يوسف المحيميد ورجاء عالم، ومجاز المكان وصورة البيئة في القرية والصحراء والريف كما عند عواض شاهر وعبد الحفيظ الشمري وعبده خال وأحمد أبو دهمان، ومجاز الأنوثة وصورها عند الكثير من الروائيات مثل: سميرة خاشقجي ونورة الغامدي وسواهما، ومجاز الذكورة وحالاتها المختلفة عند الروائيين أيضاً مثل: عبد الله مناع وغازي القصيبي، ومجازات أخرى تعتمد تفاصيل وموضوعات غير شاملة وبعضها فوضوي وآخر ضبابي..
.. نستطيع أن نقول ان فن السرد هو لغة خاصة خلاقة تخلق واقعاً آخر، وتعبر بأسلوب لا يسمح بنقله إلى لغة أخرى كما يقول الروائي الأرجنتيني أرنستو ساباتو(الكاتب وكوابيسه، 1999، ص: 117).
_____
*الرياض

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *