*محمد حجيري
“ما سبب اقدامك على كتابة الرواية؟” سؤال طرحته “المدن” على عدد من الروائيين والروائيات (هيثم حسين، دنى غالي، أحمد الواصل، كاتيا الطويل)، والسؤال نابع في الأساس من اندفاع الاجيال الجديدة إلى كتابة الرواية تحديدا، ويترافق ذلك مع حمى الجوائز النقدية والرمزية التي تعطى للروائيين… والسؤال المذكور فيه شيء من استقراء الذات قبل كل شيء. والجواب ليس بالسهل اختصاره، فكل رواية لها أسبابها وطقسها، والكتابة كتابات وكل كاتب (أو كاتبة) له عالمه وشغفه وتفسيراته وتأويلاته لاختياره او لإقدامه على فعل كتابة الرواية، أو اي جنس أدبي آخر… كل كتابة هي فعل ذات وشغف، هي سرّ ربما لا تفسره الكلمات، او قد يعجز الكاتب عن تفسير ما يريده أو تفسير سبب اقدامه على فعل الكتابة والرواية تحديداً…
هيثم حسين(*): محاولة ترتيب جزء من فوضى العالم
لم أفكّر بداية في أيّ سبب للإقدام على كتابة رواية، ربّما كانت المغامرة والتحدّي وإثبات الذات والتعبير عن المحيط من بين الدوافع، لكنّها لم تكن كلّها بالتأكيد، كان هناك سرّ دائم لم أستدلّ إليه بعد، لا يتعلّق بالبحث عن الشهرة أو المال أو المجد أو أيّ شيء من قبيل هذا.. سرّ يقوده الشغف والتوق، يمنحني سعادة قصوى، ويهدّئ العنف والجنون بداخلي، وحسبي أنّ هذه الجذوة ما زالت متّقدة في روحي.
ربّما هناك محاولة التقاط سرّ من أسرار الخلق، وابتداع حيوات لشخصيات متخيّلة، ومعايشتها في واقع روائيّ مفترض. وربّما محاولة ترتيب جزء بسيط جدّاً من فوضى العالم، عبر تصميم عالم روائيّ على أنقاض الواقعيّ الذي يتبدّى مفعماً بالجنون والتوحّش.
أبوح لنفسي أحياناً بأنّ النتيجة تُغني عن التفكير بالأسباب، فالشعور العارم بالنشوة بعد الانتهاء من كتابة أيّ فصل روائي، ومن ثمّ السعادة حين رؤية العمل مطبوعاً أشياء لا تقدّر. حين أجد أن القرّاء يتحدّثون عن شخصيّات اخترعتها كأنّهم يتحدّثون عن أصدقاء قدامى وتواريخ مشتركة، أوقن أنّ الرواية توسّع حدود عالمي، وتضيف إلى حياتي معنىً وتكسبها ثراءً ووجوداً.
(*) روائي سوري مقيم في بريطانيا
ــــــ
أحمد الواصل(*): الطابع الشخصي ماثل في كل تعبير.
لا أحد يستطيع أن يقرر الإقدام على عمل ناتج عن موهبة.
في معظم المراحل، الأمر تحكمه أمور تتصل بمكونات فاعلة دائماً هي المكون الإنساني في الشخصية، والمكون الاجتماعي في طابعها، والمكون الثقافي في حالتها.
من السهل تبرير الكتابة بأنها العيش بين الكتب، كما تعليل الرسم بالعيش بين اللوحات أو النحت بالعيش بين المنحوتات .
ولعل الصعوبة تكمن في الشروط التي تحكم فعل الغناء أو التمثيل أو الرقص بما يلزم من طابع جماعي يخالف الطابع الفردي في الكتابة والرسم والنحت.
بحكم الخبرة المتراكمة عن تجارب في الكتابة متعددة سواء كتابة الشعر أو السرد أو النقد. فإن فعل الكتابة يحكمه الوعي بالموهبة والإقرار بتنميتها. أي لحظة اكتشاف أن وعي العالم عند البشر يتباين ما بين الوعي بالحرف أو بالشكل أو باللون أو بالرقم في واقع الذهنيات المتعددة.
إلا أن ما يحسم الأمر هو الوعي بها بوصفها وسيلة التعبير والتواصل من صاحبها إلى متلقيها. بغض عن النظر عن الوسائل والإمكانيات كالأقلام والورق، والطباعة والكتاب، والمكتبات وسواها..
إن أكثر ما يستوقفني هو الاعتراف بأنك تستطيع الكتابة فتجد أنك تهدر بعض هذه الطاقة في المدرسة في مواد الإنشاء ضمن مواد اللغة العربية. ذلك الإنشاء المجاني، لتهنئات وما في حكمها، المفتعل في مواضيعه وطرق تعابيره.
لا أنسى تلك النجمات التي تقيم قطع الإنشاء، لا لجودتها، وإنما لصحّتها النحوية والصرفية والإعرابية، لأناها ملتزمة بالحدود المطلوبة، لكن عندما يرتقي الأمر إلى أن تكون الكتابة فعلاً واعياً، تأتي مواجهة التقييم، وهذا ما حدث في إحدة مواد الصرف العربي ضمن برنامج الدراسة الجامعية.
وضعت قطعة أدبية بعنوان “بئر العذاب”، لم تكن الأولى بل سبقتها كتابات عدة بعضها شعر وبعضها قصص قصيرة ومنها مشاهدة متقطعة لروايات لاحقاً، ولا يخفى أن تكون من بين الكتابات تأملات وتحليلات صارت مقالات لاحقاً، فاكتشفت قيمة التعامل مع الحرف وصياغة الجملة، والاستطاعة في استخدام فضاء الإمكانيات التعبيرية في اللغة العربية..
لا أخفي تلك اللحظة بأنني تلقيت الكثير وتسرّب إلي جراء القراءة المركزة في الأدب شعراً ونثراً وسرداً، بالإضافة إلى قراءات معمقة ومستمرة في العلوم الإنسانية والاجتماعية لم تقف عند التاريخ والجغرافيا، ولم تنته عند علوم الحضارة والثقافة..
إن استخدام اللغة هو استخدام اللون كذلك الطابع في الغناء أو التمثيل أو الرقص يحمل كل ملامح شخصيتك وما تود أن تكونه دائماً . تحمله في تعبير.
أي أن الطابع اللغوي يظهر في الشعر كما في السرد أو القول أو النثر (كتابة النقد) كما هو الطابع الجسدي والحواسي الظاهر عند الممثل سواء على المسرح أو في الإذاعة أو التلفزيون أو السينما..
تتعدد الوسائل عند الكاتب سواء الصحف أو الكتب أو المواقع الاجتماعية لكن يبقى الطابع الشخصي ماثل في كل تعبير.
لم تكن الرواية عندي تحول عن تمرحلات أو انحراف إلى جهة أخرى. هي جزء من الممارسة الكتابية المستمرة. ربما تأخرت أو تقدمت، في النشر، لأسباب تعود إلي شخصياً ..
لكنني أعرف جيداً أنني لم أفاضل بين كتابة وأخرى. كما أن التوازي مستمر منذ البداية عندي في كل حقول الكتابة إن كان شعراً وإن نثراً وإن سرداً وإن قولاً ..
ليس كل ما يكتب ينشر في الحال. أحتاج لفترة لأفصل بيني وبين النص ما لم تملي علي الظروف غير ذلك.
لكل كتابة مزايا. ما يمكن هنا لا يمكن هناك، ولكن ما تحققه في كل كتابة هو المهم.
إن ما يميز الشعر هو ما يميز السرد كذلك يميز النثر والقول.
إن ما يفصل بين كل الطرق هي بين أن تكون نفسك في الكتابة وبين أن تكون ما تأمل عليه.
بعضنا – ربما الكثير- يبقى لديه نماذج يعيد إنتاجها سواء بوهم أو بوعي نتيجة الإعجاب المفرط أو اتخاذ النموذج المبرر لكن كلما اقتربت الكتابة من ذات الموهبة والخبرة والثقافة تصفو المعاني.
إن المعنى هو ما يتطلع إلى أن يوجد في صورة لا تتكرر عند السابق كمؤثر ولا عند اللاحق كمتورط به. كل كاتب لديه معنى يحمله بطل الطرق والوسائل ليقدمه إلى القارئ..
هذا المعنى شريد بلا طريقة أدبية أو فنية . يأتي الموهوب بخبرته وثقافته ليجعله موجوداً . وهذا ما يفسر كل ما ننجزه أو لا نستطيع إنجازه..
(*) روائي وناقد وشاعر سعودي
____
دنى غالي(*): مع ما يمتنع الرفيق عزيز محمد عن قوله أواصل الكتابة
على سبيل المثال قبل يومين نشرتْ بالصدفة مقابلة في إحدى الصحف مع عزيز محمد، الأمين العام السابق للحزب الشيوعي العراقي، والذي انتخب سكرتيراً للحزب من العام 1964 وحتى تمت تنحيته في العام 1993، عمره تجاوز التسعين وقد احتفظ في صورته المنشورة بوجه طيب سمح كردي أبيض البشرة أحمر الخدين. كان عليّ وأنا طفلة ان أرقص الرقصة البَصْرية الشعبية على إيقاع موسيقى الفرقة التي يقودها أبي احتفالا بالزيارات السرية للسكرتير إلى المدينة (نشاط الحزب كان محظورا رغم ان السكرتير وقع ذاته على ميثاق ما أطلق عليه الجبهة الوطنية والقومية التقدمية 1973)، وكنت أيضا أحظى بقبلة على خدي وعليّ أن أمكث لدقائق في حضنه ربما لالتقاط صورة قبل ان يسمح لي بالاختفاء. هذا الوسط “الشيوعي” الذي نشأت فيه تغير تماما وانقلب، وحين وقعت المقالة المذكورة أعلاه بين يدي توقعت أن أقرأ له شيئا يوضح تفاصيل غير ما قرأنا وسمعنا. فمفاتيح تاريخ الحزب أخالها كانت بيده، ولكني أصدم في أول الحوار حين أقرأ أن المحاور قد ألغى الجزء الأول بعد رفض السكرتير السابق نشره، وراحت علينا (هذه العفوية والتلقائية الصادقة أذهلتني عندما كنت أقوم بإفراغ جهاز التسجيل)!
هذا التدهور الذي حصل للعراق، بالحتمية التي أراها، طقوس استقبال هذا الضيف، السرية والحذر في تفاصيل حياتنا، الداخل والخارج الذي نتلقف إشاراته من آبائنا وامهاتنا ونحن صغار جداً، الاخلاص للفكرة، الولاء الحزبي للفنانين والأدباء الذين أحاطوا بي منذ الطفولة مع تطابقه وخلافه بما يخص المطبخ وغرف النوم، ضيق الأمكنة بالعوائل في تلك الحفلات، دخان السجائر ووجوه الرجال السكرانين وأسمائهم الحركية. الاعدامات التي غيبت كثيرين نعرفهم على يد البعث.
لكل ذلك، مع ما يمتنع الرفيق عزيز محمد عن قوله، وان كان جزءاً من سيرة، أواصل الكتابة.
(*) روائية وشاعرة عراقية مقيمة في كوبنهاغن.
ـــــــــــــــ
كاتيا الطويل(*): سأكتب الرواية لأنّني أغار من الله
الروائيّون أصناف وضروب، فبعضهم يكتب الرواية هربًا من الواقع، وبعضهم الآخر يكتبها ليغيّر الواقع، والبعض القليل منهم يكتبها لتصبح واقعًا محلّ الواقع. أمّا أنا فأكتب الرواية لهذه الأسباب كلّها وبعد.
لقد بدأت بكتابة الرواية وصدرت روايتي الأولى “السماء تهرب كلّ يوم” منذ فترة وجيزة، فهل أستحقّ أن أعدّ نفسي من بين فئة الروائيّين؟ هل أستحقّ أن أضع على وجهي هذه اللافتة الجليلة الأنيقة؟
لا. ليس بعد. طبعًا لا… ربّما ذات يوم.
لستُ روائيّة بعد، لكنّي سأقول لماذا سأكتب في المستقبل، لماذا لن تجذبني أيّة مهنة أخرى، لماذا لن أرغب في الهرب من بياض الورقة القاتل، لماذا لن أريد أن أكون معلّمة ولا طبيبة ولا طاهية ولا مهندسة. سأكتب دومًا وأبدًا، وإن فشلتُ في ذلك، وإن كرهني العالم، وإن حطّمني النقّاد. سأكتب لأنّني بالكتابة أنا معلّمة وطبيبة وطاهية ومهندسة. سأكتب لأنّني أريد أن أعلّم الفتاة أن تحارب لتنال حريّتها، سأكتب لأنّني أريد أن أشفي المكسورين من عثرات الزمن، سأكتب لأنّني أريد أن أغذّي أرواح التائهين بالأمل، سأكتب لأنّني أريد أن أبني واقعًا أجمل من الواقع الذي لا يملؤني.
سأكتب الرواية اليوم وغدًا وفي كلّ يومٍ من حياتي، لأنّني أريد أن أصنع الواقع، أن أخلقه كلّ يوم، سبعة أيّام في الأسبوع، من دون راحة. سأكتب الرواية لأنّني أغار من الله.
(*) روائية وكاتبة لبنانية
____
*المدن