الطعام في المتوسط بين «التراتبية الاجتماعية» و«الفردانية»: مقاربات أنثروبولوجية


*محمد تركي الربيعو


تكشف دراسة طرق التعامل مع الطعام (السلوكيات والمعتقدات المحيطة بإنتاج الطعام، توزيعه واستهلاكه) الكثير من علاقات القوة والتصورات المحيطة بالجنس والتراتبيات الطبقية والاجتماعية أو بعلاقات النوع (من رجل أو امرأة)، خاصة أن لكل جماعة طرقها الفريدة في التعامل مع الطعام، التي تؤثر على تشكيل الشخصية والعائلة والمجتمع المحلي.
كذلك غالبا ما يكون الطعام مرتبطا بشكل كبير بالسياسات القومية والتحولات الاجتماعية، حيث نلحظ عند قراءة تاريخ بعض أنواع الأطعمة، أن العديد من الدوائر الاجتماعية والسياسية كثيرا ما تمكنت من خلق حالة من التمييز بين الناس، من خلال التحكم في الطعام وطرق الحصول عليه، ونوع الطعام الذي يأكله الشخص، ومع من يأكل، وقد استطاعت من خلال هذه الإجراءات تحديد موقع الشخص داخل النسق الاجتماعي والسياسي، وكمثال على هذا الأمر نشير إلى دراسة الانثروبولوجية الهولندية أنوك دي كونينغ للمطاعم والكافيهات التي تقدم سلطة سيزر، حيث استطاعت أن تبين كيف أن ارتياد هذه الأماكن من قبل أبناء الطبقات الوسطى العليا في نهاية التسعينيات من القرن العشرين، كان بمثابة الإعلان عن ولادة جماعات متخيلة أو رؤية جديدة للمراتب والطبقات في مصر من منظور مطبخي (إن صح التعبير). ففي مقابل عالم «سلطة سيزر» الكوزموبوليتاني/مجتمع الطبقة الوسطى العليا، نجد مجتمع «الفول والطعمية» التقليدي.
في السياق نفسه، يشير كل من المغربيين المؤرخ عبد الأحد السبتي والأنثروبولوجي عبد الرحمن لخصاصي في كتابهما المشترك «من الشاي إلى الأتاي: العادة والتاريخ»، كيف أن الشاي الحلو كان ينظر له في السابق على أنه مادة غذائية كونه يحوي العديد من الوحدات الحرارية. بهذا، فقد بات مادة أساسية في الأوساط الشعبية (حتى يومنا هذا عادة ما يتم الربط بين الشاي الحلو وأبناء الأرياف والمناطق الفقيرة، في حين ينظر إلى تقليل السكر بوصفه مظهرا مدنيا). أما عن دلالات تحول هذا الشاي إلى مادة غذائية للفقراء على المستويين السياسي والاجتماعي، فيرى الباحثان أن الشاي وصل إلى المغرب في مطلع القرن الثامن عشر عن طريق الإنكليز، وقد بقي طوال هذه الفترة حكرا على الوسط المخزني، إذ كان من الهدايا المقدمة من الأوروبيين إلى السلطان وحاشيته. بيد أن التحول حدث مع منتصف القرن التاسع عشر، عندما أخذ ينتشر شرب الشاي الحلو في بعض الحواضر ومن ثم في البوادي، ليعم لاحقا كامل المغرب في فترة الأربعينيات من القرن العشرين. وقد أدى هذا الأمر إلى عدة نتائج منها، التوقف عن النظر إلى شرب الشاي بوصفه رمزا للعناية والتشريف (كما في السابق)، بيد أن الأهم هو أن انتشار الشاي نتيجة تغلغل الاقتصاد الرأسمالي في إنتاجه وتوزيعه، قد أدى إلى تفكك الطقوس المصاحبة في السابق لشرب الشاي (بحكم ندرته)، وبالتالي تلاشي العديد من قيم الجماعة والأنس والتآزر التي عادة ما تتعزز في المناسبات والطقوس، ليغدو لاحقا مجرد مادة استهلاكية وأقرب ما يكون للعادة (إدمان على الشاي كما يقال بالعامية)، لا تتطلب حضور الجماعة، بل يقوم بها الفرد بذاته. وهو ما يرمز بحسب الباحثين إلى حالة التحول الاجتماعي التي أخذ يشهدها المجتمع المغربي، عبر انتقاله من طور قيم الجماعة في الحياة اليومية إلى حالة من العزلة والفردانية.
من ناحية أخرى، يعد التداخل الرمزي بين تناول الأطعمة الجديدة والنساء، أو بين التعدد في تذوق الأطعمة وتعدد الزوجات ملمحا بارزا في المجتمعات التقليدية (كثيرا ما توصف النساء بأنواع الفواكه)، أو يستخدم هذا الرابط كتمثيل رمزي لأدوار النوعين (من خلال ربط النساء بالأطعمة الخفيفة، سلطة ودجاج، وربط الأطعمة «الدسمة» بالرجال)، بيد أن هذه العلاقة كما تعتقد مضاوي الرشيد، لم تعد قاصرة على المجتمعات سالفة الذكر، بل بتنا نجدها اليوم في تعريف الذات الفردانية الحداثوية لنفسها، ولتبيان هذا الربط بين الذات الحداثوية والطعام المادي والطعام الرمزي (النساء) تقوم الرشيد بمقارنة ذكية بين المصرفي الدولي الناجح الذي ينتقل بين نيويورك، ولندن، والرياض، وسنغافورة، والجهاديين العابرين للقوميات. ففي حين لا يكون المصرفي العابر للقوميات عابرا للقوميات فقط، ولكنه أيضا عواصمي، مغروز في أماكن متعددة مع تقدير منه للمطابخ المحلية لهذه الأماكن، وللنساء فيها ولشبكات العمل، وكذلك الجيل الجديد من الجهاديين العابرين لنموذج الجهاد الكلاسيكي هم أيضا عواصميون، ينشدون الزواجات من خارج محيطهم الاجتماعي في أماكن إقامتهم الجديدة، ويتبنون أذواق الطهي لمضيفيهم المؤقتين.
الخبز بوصفه عالما:
من جانب آخر، تقوم الباحثة كارول كونيهان أستاذة الأنثروبولوجية في جامعة ميلرزفيل، الولايات المتحدة الأمريكية في كتابها «إنثروبولوجيا الطعام والجسد»، المركز القومي للترجمة، ترجمة سهام عبد السلام، باستخدام عامل إنتاج الخبز في قرية إيطالية (بـــوسـا) كعدسة تحليل، لدراسة التغيرات السياسية والاقتصادية وما صاحبها من تبن لنموذج «التحديث بدون تنمية»، الذي تميز بركود الإنتاج المحلي وتزايد محاكاة أنماط الاستهلاك، وهو ما كان له أثر كبير على العلاقات الاجتماعية داخل هذه القرية.
ورغم أن أبحاث هذا الكتاب لا تشتمل على أي قراءة للمدن العربية، وإنما تقتصر على دراسة حالات في إيطاليا والولايات المتحدة الأمريكية، فإن أهميته تكمن في أن الملاحظات التي تسجلها الباحثة حيال العديد من الدلالات الاجتماعية للمراحل التي مر بها إنتاج الخبز في قرية إيطالية، مشابهة إلى حد كبير لواقع إنتاج الخبز في العديد من القرى والبلدات داخل سوريا وفلسطين والمغرب، كما أن المدخل الذي تعتمده الكاتبة، يبين كيف تؤدي المقاربات الإنثربولوجية (دراسة عادات الطعام) إلى كتابة تاريخ اجتماع جديد قد يزيد من فهمنا للتغيرات الحديثة التي شهدها العديد من المجتمعات المحلية في حوض البحر الأبيض المتوسط، خاصة أن المقاربة لهذا التحول في مجتمعاتنا المحلية العربية، ما تزال تقليدية وبعيدة عن المستجدات النظرية والبحثية في حقل العلوم الإنسانية.
وفقا للباحثة، كان الخبز هو الطعام الضروري الذي لا غنى عنه في القرى الإيطالية، فقد كان رمزا للحياة. هنا ترصد عددا من الأمثال الفلاحية في هذا الصدد منها: «من عنده خبز لا يموت أبدا»، «الأمن هو وجود الخبز في البيت». كما كان أهل سردينيا يعبرون عن الحد الأدنى لحسن الحال بهذه الكلمات «لدينا خبز على الأقل» ويعبرون عن الفقر بعبارة «ليس عندهم حتى الخبز» وفي ما يتعلق بطرق تحضير الخبز، كان الرجال ينتجون الحبوب ويأتون بها للبيت، وتقوم النساء لاحقا بتنظيم العمل الجماعي في الخبيز، فيدعين الجارات والقريبات لمساعدتهن، وكان هذا العون يرد في ما بعد عندما تقوم هؤلاء القريبات والجارات بالخبيز لبيوتهن.
ما ترصده الباحثة في هذا السياق، أن النساء وهن يجتمعن كن يتبادلن أخبار حياتهن ويتخالطن أثناء العمل، فيتبادلن ما لديهن من نميمة، ومهارات، وقصص من الماضي، وقصص حبهن، وخسائرهن. هنا كانت تبدو صانعات الخبز بوصفهن «قنوات مضبوطة للتواصل الاجتماعي»، فهن يكشفن خفايا البلدة أثناء قيامهن بالعجين والخبيز، فالأسرار تفشى، كما يعدن التأكيد على المعايير والأخلاق المحلية عن طريق نقدهن للآخرين والأخريات.
ما تلفت إليه الباحثة أيضا، هو أن الأخباريات غالبا ما تؤكد أن زراعة الحبوب بدأت تتناقص في هذه المدينة مع حوالي 1960، مع تبني سياسات جديدة من قبل الدولة الإيطالية على مستوى التنمية، وكادت تختفي تماما في بحر ست أو سبع سنوات. ويمكننا فهم هذه الوفاة المحيرة لمحصول مهم في ضوء السياسات الزراعية الإيطالية، وهي صورة من صور أنواع التحديث بدون تنمية. فقد بقيت الحكومة الإيطالية تحاول حماية الحبوب الإيطالية من السعر العالمي الموحد منذ عام 1861 وحتى خمسينيات القرن العشرين، لاحقا أخذت تتبنى سياسات اقتصادية جديدة عبر التشجيع على المكننة الزراعية وتحويلها للإنتاج الزراعي، كما ارتفعت أجور العمال مقارنة بأجور الفلاحين، الأمر الذي قاد إلى مزيد من الهجرة من المناطق الهامشية. وكمثال عن هذه الأحداث التي تعتبر أمثلة لهذا التحول الاجتماعي الاقتصادي طويل المدى، تشير الباحثة إلى أن أول مخبز افتتح في القرية كان في عام 1912. وقد دارت عجلة العمل في هذا المخبز ببطء في البداية، لأن جميع ربات البيوت كن يخبرن خبزهن بأنفسهن، وكان شراء الخبز يجلب العار. لكن مع جمع الحبوب مركزيا إبان الفاشية وتحديد حصص الناس منها أثناء الحرب، بدأ الناس في اتباع عادة الذهاب إلى المخبز.
وبذلك لم يعد لدى الناس حبوبهم الخاصة بهم، وهكذا اضطروا لشرائها. فإذا كانوا يشترون الحبوب، فالأسهل أن يعتادوا على فكرة شراء الخبز. وأغلقت مطاحن الغلال في بوسا، مما أرغم النساء على الذهاب إلى بلدات أخرى على مبعدة تسعة كيلومترات لطحن الحبوب وتحويلها إلى دقيق. فتعجبت النساء، لماذا يجب أن يتعبن أنفسهن في حين تتزايد أعداد قريباتهن وجاراتهن اللاتي يشترين الخبز، ولذلك توقفت نساء بوسا ببطء عن الخبيز، وبعضهن جعلنها خطوة بلا رجعة بأن هدمن الأفران، مدفوعات برغبتهن في توسيع بيوتهن وتحديثها..
وهنا ترى الباحثة، أن صناعة الخبز في بوسا كانت في ما مضى تتميز بـ«نمط الإنتاج المنزلي». كان الزوج والزوجة يضطلعان بمهام متكاملة تتضمن حصد القمح وخبز الخبز. وكانا يتعاونان من باب الضرورة مع ناس خارج نطاق العائلة في الحصاد والدرس والخبيز. وما زال الرجال والنساء يحتاجون إلى بعضهم بعضا اليوم في الكثير من الأشياء، لكن لم يعد من بينها الإنتاج المادي لأحد ضروريات الحياة مثل الخبز. ومع تناقص الإنتاج القائم على الكفاف قل احتياج أهل بوسا للاعتماد الدائم على آخرين من خارج العائلة. وقد عبرت إحدى إخباريات النساء عن هذا التغير على النحو التالي:
«في سالف الزمان، حين كنا معتادات على خبز الخبز في البيت، كنا مضطرات للاستعانة بالجارات، وقد كان هذا شكلا من أشكال الاعتماد على الغير. أما اليوم وقد صرنا نشتري الخبز الجاهز، فقد انتهى هذا الاعتماد على الغير وصرنا جميعا أحرارا في بيوتنا. وإنني لممتنة حقا لهذا التقدم، وللراحة التي شعرنا بها لعدم اضطرارنا لإدخال الغريبات إلى بيتنا لمساعدتنا، ثم يخرجن لينشرن النميمة حول ما رأينه عندنا، ويا لهذا من راحة عظيمة للروح أكثر مما هو راحة للبدن».
نجد هنا أن هذه المرأة تعبر عن الاتجاه نحو الفردية: كيف قل احتياجها للآخرين وصارت أقل عرضة لنقدهن الأخلاقي. إنها أكثر استقلالا على المستوى الثقافي، لأن غزو أساليب الإنتاج الجديدة قد أراحها من اعتمادها الاجتماعي على الغير، وهو موقف يدعم- بحسب الباحثة- فرضية الإنثروبولوجيا الاقتصادية القائلة بأن نمط الإنتاج والتبادل الرأسمالي قد أديا إلى تفتت العلاقات الاجتماعية. ففي السابق كان الإنتاج المحلي (إنتاج الخبز) يقوم على التعاون والتكافل (بين الرجل والمرأة وبين نساء القرية) ووفق ما دعاه مارسيل موس باقتصاد «الهبة» الذي لا ينحصر فقط بتبادل الأشياء المادية، بل يشمل تبادل الخدمات والولائم والواجبات الأخرى.
أما في ظل الركود (صناعة الخبز في المنزل/نساء الجماعة) والاعتماد على تحديث الدولة (أفران كبيرة)، فقد أدى هذا الأمر إضافة إلى مسائل أخرى إلى توسع دائرة انتشار أخلاق القيم الفردية داخل هذه القرية، في ظل انتفاء الحاجة إلى خدمات ومساعدة الآخرين، وفي ظل تزايد الاعتماد على الدولة في إنتاج الخبز وباقي النواحي الاقتصادية (معاشات الوظيفة بدلا من معاشات الفلاحة).
____
*القدس العربي

شاهد أيضاً

فصل من سيرة عبد الجبار الرفاعي

(ثقافات)                       الكاتب إنسان مُتبرع للبشرية …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *