‘من مذكرات غرفتي’ رواية جزائرية في دفتر يوميات



*هيثم حسين


ترصد الجزائريّة حفيظة طعّام في مجموعتها القصصيّة “من مذكّرات غرفتي” مشاهد ومفارقات من واقعها، تنسبها إلى شخصيات قصصيّة متخيّلة في مسعى للإسقاط الذي يبدو مرعباً في بعض تفاصيله وخفاياه، تستعين بالغرفة لتكون ملاذاً آمناً لها، تسرد منها أحلامها وأمنياتها وأحزانها وذكرياتها.
في المجموعة التي فازت بجائزة غسان كنفاني، ونشرتها دار الكلمة في الجزائر 2016، تبقى غرفة الكاتبة مدفن أسرارها، وميدان حريتها الأرحب، هي الأنيسة وقت الوحشة، تحتل الاهتمام كله، لذا فتراها تؤنسنها وتنقل ما توحي وتفترض أنه مذكراتها، وما هي إلا مذكرات صاحبتها بطريقة ما، غرفتها تكفل لها الأمان والاطمئنان، تبقيها بمنحى عن طيش العالم الخارجي، تحتفظ لها بذكرياتها، تستعيدها معها وكأنها كتاب مذكرات، أو دفتر يوميات تدوّن فيه الأحداث بطريقة غريبة مثيرة.
صراعات داخلية
تكبر دائرة الغرفة لتتحول إلى مدينة وذلك في قصة “مدينتي” التي ترثي فيها القاصة ملامح مدينتها المفقودة، ومعالمها الشاحبة، وحاضرها البائس، وكيف أن ذلك ينعكس على نفسية أبنائها الذين يبدؤون بالتصرف بطريقة غريبة، ووحشية في بعض الأحيان ليتمكنوا من البقاء والاستمرار.
تستهل قصصها القصيرة بـ”أرق”، تعاني نزيلة الغرفة من أرق يحرمها النوم، تحاول التكيف مع حالتها، وبعد معاناة تستدل إلى تحويل النقاط السلبية التي تقض مضجعها إلى علامات إيجابية، تشير بذلك إلى تغيير الحالة تبعاً للنظرة الإنسانية، وما إن كانت تنطلق من زاوية معتمة أو مضيئة لمقاربة الحالة ومعايشتها، وكيف أن التعاطي الإيجابي مع الأحداث والمواقف ينقل المرء من ضفة إلى أخرى، وكل ذلك وهو يشهد صراعات داخلية في أعماقه تقوده من قلق إلى أرق إلى هدوء وطمأنينة وقد تعيده إلى أرقه من جديد لمجرد ذكرى منبثقة من ذاكرته.
الحنين إلى براءة الطفولة يتبدّى من السمات الرئيسة في قصص حفيظة طعّام، تراها تستنطق الطفل الغافي في داخل المرء، تحرّضه للبحث عن إجابات لأسئلته التي تبدو بريئة في ظاهرها، لكنه ينقل العبرة والحكمة من خلالها، في قصة “تساؤل” مثلاً يسأل الطفل بكل براءة ما إن كان الميت يأخذ معه هاتفه أو مفاتيح سيارته، ويتأسف على المسكين الراحل من دون أن يأخذ معه أيّ شيء من متاع الحياة، ليمضي إلى قبره مجرداً من كل الثروات والامتيازات.
في موقف آخر في قصة “مجرد استفسار” يثير طفل صغير بريء أوجاع جده، حين يسأله عن أسباب كذب الكبار ودوافعهم، وحين يستنكف جده عن الإجابة، يلحّ الطفل على سؤاله، ويذكر له بعض المواقف، منها أن أباه الذي كان يزعم حبّ أمّه طلّقها، وأنه كان يكذب في حبّه المزعوم لها، وأن معلمته تنافق وهي تستقبل وتودع زميلاتها، وكذلك جارهم التاجر ينافق ويكذب بادعائه محبته للفقراء ومساعدته لهم، في حين أنه يحتقرهم. ويكون سؤاله “ماذا ينتظر الكبار منا وهم يعلموننا النفاق والكذب والاحتيال؟”.
في قصتها “دمع الذكريات” تحن الحاكية إلى أيام الطفولة، تتشوق إلى الأيام التي قضتها في طفولتها في منزل من تسمّيه عمّها، وكانت زيارتها لقريته ومنزله بمثابة مهدّئ لها، وتستعيد بعض العادات المحلية والتقليدية في الاستقبال والتوديع، في المأكل والعيش، وحين تسمع بنبأ وفاة عمّها ينتابها حزن شديد على ما فقدته من بهجة معه، ويكون رحيله إيذاناً بانتهاء عهد الجمال والبراءة والكرم بالنسبة إليها. تقول بأسى “الآن أدركت لمَ شاخت وجنتا التفّاح، ولمَ جفّت بئره العاتية، ولمَ أغلقت أبواب الصالة البرانية، ولمَ قبع الحزن في عيون الأطفال، ولمَ دمعت عين السماء”.
وهم مخادع
تلتقط القاصة حالة الانشطار الذاتي التي تطال شخصيات قصصها، في قصة “ذات حلم شاق” مثلاً يكون الانقسام جلياً ومعلناً، تستهلّها بإقرار بطلة القصة أنهما كانتا اثنتين هي وذاتها، تشقان معاً براري التيه، ولما تعبت ذاتها قالت لها استريحي، وإنها آنست ناراً لعلها تأتي منها بدفء، وحين قصدت النار وجدت أنها لم تكن سوى دخان.. وهنا تعكس خيبة الأمل من الوهم المضلّل المخادع، وضرورة عدم الانقياد للأوهام، وتتحوّل براري التيه إلى براري الجنون.
ترصد عبث القوى المتحكمة بالمدن في قصتها “غيلان”، وكيف أن تلك القوى تحوّل حياة الناس إلى جحيم بعبثها، بطلة القصة تصف نفسها بأنها كانت الفراشة الوحيدة الناجية من بطش حشد كبير من الغيلان التي عاثت في الأرض خراباً، دمّرت قريتها الوديعة، لتجد نفسها على قيد الحياة وسط أكوام من الجثث. ترمز إلى أنّ الناس أصبحوا جسداً برؤوس مختلفة، تختبئ في مكان ما وتكسو الدماء جسدها النحيل، وتفوح من المكان رائحة الموت، تسودّ السماء بغربان متوحشة.
ترمز كذلك إلى تغييب القمر، وسيادة العتمة التي يجلبها الغيلان الذين يكونون غزاة المكان الجدد، يحتلون التفاصيل ويهيمنون على كل شيء، يغيرونه بطريقة فظيعة، يجبرون الناس على الارتكان لسطوة الظلام واليأس. تستنطق أولئك الغيلان الذين يعلنون أن بداية انتصاراتهم تجلت في إيهام الناس بالتزامهم، وأنهم بنوا المساجد ورفعوا صومعاتها وعلّوا أصوات المؤمنين فتحايلوا على الناس بتلك المظاهر المخادعة وكسبوا ثقتهم بطريقة منافقة.
تلتقط أيضاً بعض التفاصيل التي يحرص عليها أرباب الشرّ حين فتكهم بالناس، من ذلك مثلاً إلهاء الشباب والتلاعب بهم كالدمى، ودفعهم إلى التقاتل فيما بينهم، وإفساح مجال واسع لهم لممارسة جنونهم وتخبطهم، وذلك بعد إفشاء الفتن بينهم، وتنفيذ مخططات خطيرة في غفلة منهم، والبهجة بأنّهم سيحكمون ذاك الفراغ الذي يسمونه الوطن. وتتحسر القاصة على رغبة أبناء البلد عن العلم والثقافة، وتغريب المثقفين، وإبقاء أصواتهم خافتة في مواجهة أصوات المتطرّفين والمتخبّطين في جهلهم.
تراها تختم قصتها بالتصريح عن حيرتها المتعاظمة، تسأل نفسها أسئلة تبدو لها من غير إجابات راهنة “غفوت بعدها دون أن أعلم مصيري هل أنا في قبضة الغيلان أم جاء منقذي ومنقذ وطني؟ هل عاد القمر إلى مدينتي أم طلّقها من غير رجعة؟ هل استمع أبناء أمّتي من الأحياء لأصوات المثقّفين أم أنّهم لا يزالون صوتاً بلا صدى؟”.
ولا تدري أين ستقودها حيرتها وتخبّط أبناء بلدها، تعترف أنّها ستبقى في انتظار أن يقرّر الراوي مصيرها ومصير وطنها، تبقى الفراشة الوحيدة الناجية، تختبئ في مكان غير بعيد تكسو الدماء جسدها النحيل.
________
*العرب

شاهد أيضاً

العهدُ الآتي كتاب جديد لمحمد سناجلة يستشرف مستقبل الحياة والموت في ظل الثورة الصناعية الرابعة

(ثقافات) مستقبل الموت والطب والمرض والوظائف والغذاء والإنترنت والرواية والأدب عام 2070 العهدُ الآتي كتاب …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *