*د. عبدالله إبراهيم
وضع أفلاطون تناقضاً صريحاً بين الشاعر والفيلسوف، وفصلهما بهوّة لا سبيل إلى ردمها؛ الشاعر كائن أعمى، أما الفيلسوف فمبصر. يحوم الشاعر حول الحقائق فلا يطرقها، ولا يباشرها، بل يُشبّه له ذلك، فعمله ملتبس لأنه تخليط مبهم، فيما ينشدها الفيلسوف، ويحيط بها، ويستوعبها، ويستوفيها، ويتمكّن منها. ويغلب الظنّ، بقليل من التأويل، إن أفلاطون رمى إلى غاية بعيدة بالتفريق الجازم بين الاثنين، إذ قصد من ذلك إلى تثبيت الفرق بين هوميروس شاعرًا وبينه فيلسوفًا، فيكون عمى صاحب “الإلياذة” عمى مجازياً لا صلة له بالآفة التي تخرّب البصر، بل عمى الشاعر الذي يحاكي عن بُعد “المُثل العقلية” فيموّه الحقائق، ويفتري عليها، لأنه لا يراها، فيتعذّر عليه تصوّرها. الشاعر، والحال هذه، مزوّر، وغشّاش، ومُداهن، وناسخ خبيث غير مؤتمن، فهو يُلبس الحقائق بالباطل، فيُفسدها، ويظهرها بخلاف ما هي عليه في الأصل؛ ذلك أن صدق المحاكاة عند أفلاطون يقترن بأمانة التصوير، وتلك مهمّة الفيلسوف.
ومع أن قيمة الشعر ترتبط، في أغلب الأحيان، باللّذة التي هي من نتاج الخيال الحسّي، فما وضع أفلاطون في اعتباره شيئاً من ذلك، بل ذمّها، وبها استبدل صدق التعبير، وبذلك حلّت المعقولات لديه محلّ التخيلات؛ لأنه أراد إحلال التفكير العقلي محلّ التفكير الأسطوري. وفي حال الأخذ بهذا التمييز، نصبح بإزاء رتبتين من رُتب الكلام، أولاهما رتبة الكلام القائم على الإيحاء ووسيلته المجاز، ويمثله الشعر بضروبه الملحمية والغنائية والتمثيلية، وثانيتهما رتبة الكلام القائم على المباشرة ووسيلته الجدل، وتمثله أعمال الفلاسفة. وقد أشاح بنظره عن الأولى واحتفى بالثانية، وتلك زحزحة مقصودة لمواقع الكلام، فتقديم ضرب منه على آخر، يفضي، لا محالة، إلى خفض قيمة المتأخر عن المتقدّم.
الربط الذي اقترحه أفلاطون بين الكلام والفائدة المباشرة أَلحَقَ ضررًا بالغًا بالشعراء، فقد نزع عنهم الشرعية الجليلة التي أصابوها عبر الأزمان حينما وصمهم بالعمى، وترتّب على ذلك قلب المعايير القديمة في تقدير الكلام الشعري المعبّر عن الفطنة، والحصافة، ونفاذ البصيرة، فأن تلوذ بهوميروس وأضرابه من الشعراء فذلك أمر كان يستحق الافتخار والمباهاة فيما مضى، غير أنه هُجر وحلّ محله معيار جديد، وهو مرافقة الجدليّين والسجاليّين. وحسب التصنيف الأفلاطوني فقد انقضى عصر العميان وظهر عصر المبصرين.
غير أن أفلاطون لم يكتف بذلك إنما أراد إرسال الشعراء، وممثلهم الأكبر هوميروس، إلى الدرك الأسفل من العمى حيث لا شفاء من ذلك الكَمَه الأبدي، حينما فرّق بين الشعراء على قاعدة الاعتراف والإنكار، وربط ذلك بالإبصار والعمى، فقد أورد على لسان سقراط في محاورة “فيدروس” تفسيرا لعمى هوميروس؛ أضاع الشاعر بصره لأنه ما أقرّ بخطأ اقترفه حينما أذنب بحقّ الآلهة والأبطال، وما نظر بعين التقدير إلى أفعالهم الجليلة، والأحرى أنه سخر منهم، وتهكّم بهم؛ إذ ازدرى “هيلين” وعابها، وما عَدَل عن ذلك، وهي سليلة الآلهة، فابتلى بدوام العمى، أما “ستاسيخوروس”، وهو شعراء القرن السادس قبل الميلاد، فقد اقترف الخطأ ذاته حينما وصف هيلين بالخيانة، والمراءاة، وتعدّد الأزواج، غير أنه اعترف بإثمه، وندم عليه، فاستردّ بصره. ما إنْ يرعوي الشاعر، ويقرّ بخطئه، ويفصح عن ندمه، حتى يَبْرأ من عماه، فهوميروس “لم يمتلك الذكاء، أبدًا، كي يكتشف عماه، بل الذي استنبط ذلك هو ستاسيخوروس، الذي عرف سبب وجوب ذلك؛ ولهذا السبب، فإن هوميروس عندما فَقَد عينيه، كانت تلك هي العقوبة التي نزلت عليه لِشَتْمِهِ هيلين الجميلة. وأما هو(ستاسيخوروس) فطّهر نفسه في الحال، وكان التطهير اعترافا علنيًّا بالخطأ، والذي بدأ هكذا “إنها باطلة تلك الكلمة التي تخصّني، الحقيقة هي أنها لم تركب متن سفن جيدة التنضيد، ولم تذهب إلى حصن طروادة أبدًا” وعندما أتمّ قصيدته المسمّاة “الاعتراف علنًا بالخطأ”، فإن بصره عاد إليه في الحال”.
لم يدرك هوميروس الكبوة التي ارتكبها، وما خطر له الاعتراف بها، ثم الاعتذار عنها، لكي يستردّ بصره، أما ستاسيخوروس فقد أدركها، وسارع إلى الاعتراف بها، فاستعاد بصره. عاش الشاعر المُنْكِر بعينين منطفئتين، وعاش النادم مبصرًا. يُفهم من محاورة “فيدروس” أن “ستاسيخوروس” تطهّر من إثمه، بعد أن أقرّ به، فأعيد له بصره، غير أن هوميروس مضى في غَيّه، غير آبه بذنبه، فارتكس، إلى الأبد، في العمى، بيد أنّ القاعدة هي عمى الشعراء، والاستثناء إبصار مَنْ انكفأ عن ضلاله. أصبحت تلك الفئة المميزة بين الناس، ممن كانوا أفطن من سواهم، وأشعر، وأبصر، جماعة من المكفوفين الضالّين، قوبل عناد الشعراء بسخط الآلهة. ومادام الأمر قد اتّخذ هذه الصيغة، فوجب نبذهم، وطردهم، فلا فائدة من عميان يسيئون للعالم بأوهام لافائدة منها.
استند موقف أفلاطون من الشعر إلى فكرته عن الإبصار والعمى، فذلك الشعر مُمثلا بهوميروس محاكاة عمياء للحقائق بحكم العادات الشعرية، فهو أشبه بالأعمى الذي يتوهّم الإبصار. وفي ختام الكتاب السادس من محاورة “الجمهورية” عالج موضوع أفلاطون ثنائية الإبصار والعمى رابطا إياها بالمعرفة المبصرة والجهل الأعمى، فسقراط، وهو الناطق بلسان أفلاطون، لم يمنح أهمية للأفكار من دون السياق الحاضن لها، وهو الفهم “إن كل الآراء المجرّدة سيئة، وإن أفضلها أعمى” لأن “الذين لديهم نظرية حقيقية بدون فهم يشبهون الرجال العميان الذين يستشعرون اتجاههم بموازاة الطريق الصحيح”. وبغية توضيح ذلك توسّع سقراط في مجادلة مُحاوِرَيه: كلوكون، وأديامنتوس، بقوله: إنّ البصر هو العضو الذي يمكن به “رؤية الأشياء المنظورة”، بل هو “القطعة الأكثر نفاسة وتعقيدًا إلى حدٍّ بعيد التي استنبطها صانع الحواس أبدًا”. وبدون إضافة بعض الطبائع الأخرى لا توجد رؤية، أو وجود مرئي؛ لأن البصر موجود في العينين، لكن العين بذاتها عاجزة عن النظر بدون النور، فالصلة بين العين والنور هي التي تُحدث البصر، فتكون العين “أكثر الحواس شبهًا بالشمس” لأن “القوة التي تمتلكها العين هي نوع من التدفّق الموزّع من الشمس، وعلى هذا فإن الشمس ليست البصر “بل مبدعة البصر” ذلك أن “العينين عندما يوجههما الشخص باتجاه الأهداف التي لا يكون مشعًّا عليها ضوء النهار بعد، بل ضوء القمر والنجوم فقط، فإنه يرى بخفوت ويكون أعمى تقريبا؛ إنها تفتقر لوضوح الرؤيا(=الرؤية) فيها”. وما إنْ تشعّ الشمس عليها حتى “ترى بجلاء ويوجد بصر فيها”. وينتهي سقراط إلى أن الروح شبيهة بالعين حينما تستقر فوق الموضوع الذي تشعّ عليه، فإنها بالحواس تدرك الحقيقة وتفهمها، ويتعذّر عليها الفهم حينما لا يتوفّر لها ذلك، فتكّون آراء عارضة عن الحقيقة، ويخلص إلى أن “النور والبصر شبيهان بالشمس ومع ذلك فهما ليسا الشمس” كما أن “العلم والحقيقة يمكن اعتبارهما شبيهين بالخير، ولكن من الخطأ أن نعتقد أنهما الخير. الخير له مكان شريف أعلى فوق ذلك”.
شرح “هيدغر” في كتابه” نداء الحقيقة” مفهوم الحقيقة عند أفلاطون على خلفية من ثنائية العمى والإبصار، بقوله “كلّ ما يمكن أن يُرى مباشرة، ويسمع، ويلمس، ويقدّر حسابه، يظل في نظر أفلاطون مجرّد انعكاس باهثت للمُثُل، أي مجرّد ظلّ. هذا الشيء القريب من الإنسان أشدّ القرب، هذا الذي يبقى ظلّا على الرغم من كلّ شيء، هو الذي يأسر الإنسان ويقيّده في حياته اليومية. إنه يحيا في سجن، ويترك جميع “المُثُل” وراء ظهره”.
_______
*الرياض