القاهرة- حين ذهب جبران خليل جبران إلى أمريكا، لم يكن ذهنه بعيداً عما يحدث في الوطن العربي، فما كان يحدث هنا جعله يصرخ: «من منبع النيل إلى مصب الفرات، ومن أطراف الجزيرة إلى جبهة لبنان، ومن شاطئ الخليج إلى أطراف الصحراء ترتفع نحوك الأعين المغمورة بذوب الأفئدة، فالتفتي أيتها الحرية، وانظري نحونا، أصغي إلينا أيتها الحرية، قوي قلوبنا لتحيا، أو شدي سواعد أعدائنا علينا، فنفنى وننقرض ونرتاح».
بدأ جبران خليل جبران حافظاً متمرداً ثائراً، ثم انتهى مستعلياً على الدنيا جميعها، فبعد هدوء ثورته وتمرده وجموحه، يحتفظ لنفسه بشيء من الاستعلاء على الناس، فيصور لنفسه وللناس في «النبي» أنه معلم يطل على الدنيا كلها، مبشراً وداعياً إلى الطريق السوي، الذي لا طريق سواه، كأنما كان نذيراً للناس بما هم فيه من باطل، وبما ينبغي أن يكونوا عليه من حق، إنه يعالج العلاقات بين الإنسان وأخيه الإنسان.
ويروي عنه صديق عمره ميخائيل نعيمة أنهما كان يسيران معاً ذات مساء، وفي لحظة كان فيها أقرب إلى نفسه وضعفه، قال: «إني نذير زائف يا ميشا»، وكان يومها يختزن في نفسه كتاب «النبي» وما يحويه من مادة، وكأنما كان يستعيد ما اختزنه، وينوي أن يقدمه للناس، فاستكثر أن يحمل هذه الرسالة الضخمة إلى العالم، وأن يجعل من نفسه معلماً يصحح الأخطاء، ويمهد طريق المعرفة، فثار على نفسه وعلى غروره، وهو أعلم بما يعتوره من ضعف، وتنطوي عليه نفسه من خطأ، فكانت وقفته التي كشف فيها عن حقيقة نفسه بشجاعة، بعد أن هاله أنه يعيش في تناقض ضخم بين خطاياه وتعاليمه، التي ينوي أن يطالع بها الناس، وكان اعترافه لصديق عمره «ميخائل نعيمة» أمام طبيعة نقية لا تعرف النفاق، فلما سكنت نفسه، عاد إلى ما كان عليه من إقدام فأخرج كتاب «النبي».
عندما عاد جبران خليل جبران إلى الولايات المتحدة الأمريكية، اتسعت آفاقه ودخل «نيتشه» و«زرادشت» حياته، بتعاليمه وفلسفته، ولعله رأى في نيتشه الرجل الذي سبقه إلى عالم كان يريد أن يكون رائده، لقد أحس وحشة بنيتشه ووحدته، خلال القرن التاسع عشر، لقد اعترف ذات مرة لماري هاسكل «كم أكره ذلك الرجل الذي انتزع من رأسي الكلمات، وقطف ثمار الشجرة، لحظة اقترابي منها، حقاً لقد تقدّم عصره بثلاثمئة سنة، أما أنا فسأنبت شجرة، أظل أقطف من ثمارها ستمئة عام»، لقد أحب نيتشه لكنه لم يستطع أن يصبح صورة حقيقية منه، وظلت الصلة بينهما قائمة على الخيال والقالب، ولما خفت تأثره به وبأفكاره ظل متأثراً بأساليبه وطريقته في التعبير، وكما اتخذ «نيتشه» من «زرادشت» وسيلة لإذاعة آرائه، كذلك فعل جبران.
«النبي» كما يقول د. ثروت عكاشة، في ترجمته لهذا الكتاب، هو الصورة المكتملة لجبران، تجاربه كلها فيه، كذلك عواطفه وآماله وأحلامه وآراؤه وصوفيته وفلسفته ونظراته، لقد انتهى جبران بعد كل ما مر به من تجارب ومحن إلى أن الحب بين الناس هو شريعة الحياة، عنده يلتقون، وأمامه يتساوون، وعلى عتباته يزول ما بينهم من فوارق، ويذوب ما بينهم من حسومات، وعن الحب تتفرع جميع مظاهر الحياة.
على أن التجربتين الرئيسيتين في حياة جبران خليل جبران، واللتين لونتا فكره ومزاجه، وأقامتا الروابط الفكرية والروحية بينه وبين الكتاب والأدباء هما تجربة الحب والغربة، وقد أضاف تجاربه الذاتية في الحياة إلى الأفكار التي استقاها من عصره، ثم أعاد صياغة هذه الأفكار ولونها بطابعه الشخصي المميز.
كان تردد جبران بين العربية والإنجليزية أوضح ما يكون في كتاب «النبي» فقد كتبه أولاً بالعربية، ثم تركه جانباً، بعد أن رأت أمه أنه سابق لأوانه، وبعد خمس سنوات أعاد صياغته، وكانت أمه قد ماتت، فلم يصبر وأعاد الصياغة مرة ثالثة، لم يقتنع بها، فمزقه من جديد، وبعد عشر سنوات أخذ يكتبه بالإنجليزية دون استئناس بالنص العربي، كانت اللغة الإنجليزية قد باتت بمثابة لغته العربية، فلم يعد يحس بأيهما لغة أولى أو ثانية، ويعترف جبران بأن كل ما يعرفه من الإنجليزية قد تعلمه من شكسبير وماري هاسكل.
لقد حلّق جبران في كتاب «النبي» في آفاق الرؤية المتفائلة بالحياة، وتوهم في نفسه القدرة على تغيير تلك الحياة، كان يريد حياة أخرى غير تلك الحياة التي كره مضامينها واكتشافاتها، لكنه لم يتخيلها غير حياة بدائية ساذجة، فعزلته وغربته بعيداً عن وطنه، وانطواؤه على نفسه هارباً من المجتمع الأمريكي، جعله يعجز عن أن يقدم حلاً حاسماً لمشكلات الواقع اليومي من حوله. كتب جبران «النبي» عام 1923، وترجم إلى أكثر من 50 لغة عالمية، وهو نفسه يقول إن هذا الكتاب شغل حياته كلها، وبعد وفاته لا يزال يتداول ملايين القراء هذا الكتاب في كل أنحاء العالم، وقد فطن أصحاب دور النشر إلى أنه يكاد يموت إنسان حتى يتهافت العشرات من أقاربه وأصدقائه على اقتناء كتاب «النبي» بحثاً عن العزاء والسلوى، كما أن كثرة من الشعب يقتنون الكتاب ليقتبسوا من عباراته ما يمس قلوب الفتيات وقد أوردت إحدى المجلات فقرة من رسالة كتبتها فتاة، وتعد مؤشراً إلى شعبية الكتاب: «ما أندر هذا الكتاب الفريد، وما أقدره على تبديد الأحزان التي تجثم على القلوب، ومنح الأرواح المكدورة فرحة الراحة والإشراق».
________
*الخليج الثقافي