*محمد الحمامصي
يعد الناقد الثقافي فالتر بنيامين (1892-1940)، من أبرز فلاسفة ألمانيا، لما يمتاز به فكره من شمولية، وقد ارتبط بنيامين بمدرسة فرانكفورت الفلسفية، وضمّت فلسفته عناصر من المثالية الألمانية والرومانسية، والماركسية الغربية والعرفان. وتأثر فكره ببودلير وأدورنو، وكافكا وماركس، وباكوفن وبروست. وشكلت أعماله إضافاتٍ مؤثرة ومستمرة في نظرية الجمال، والنقد الأدبي، والمادية التاريخية.
يجمع كتاب فالتر بنيامين “عن الحشيش” مجموع كتاباته عن الحشيش، وقد نشر بعد وفاته، وهو مخطط تفصيلي لكتاب لم يكتب قط – “كتاب استثنائي حقا عن الحشيش”، كما وصفه بنيامين في رسالته لصديق. سلسلة من “بروتوكولات المخدر”، كتبها هو ورفاقه إرنست جويل وإيجون ويسينج وفريتز فرانكل بين 1927-1934، إلى جانب قطع نثرية قصيرة نشرها خلال حياته، “عن الحشيش” يوفر صورة حميمة ونادرة لبنيامين المغامر في نهايات جمهورية فايمار.
الكتاب صادر عن “الكتب خان للنشر والتوزيع” بترجمة السودانية سماح جعفر وتحرير الشاعر والمترجم هرمس، وفيه يتأكد لنا انتماء بنيامين بوعي فائق إلى طريقة خبراء المخدر الأدبيين العريقة من بودلير إلى هيرمان هسه؛ فقد تمعّن بنيامين في الحشيش والمخدرات الأخرى بوصفها تدشينا لما أسماه “الاستنارة الدنسة”.
بين أيدينا هنا طريقة جديدة للرؤية، واتصال جديد بالعالم المعتاد. تحت تأثير الحشيش، يصبح الزمان والمكان شيئا واحدا، ما أسماه بنيامين في دراسته للسريالية “حيّز الصورة”، حيث تدب الحياة في ذلك الانغماس الفلسفي للحس.
تجارب الحشيش الموثقة في هذا الكتاب أجريت منذ عام 1927 وحتى 1934، في برلين ومارسيليا وإبيزا. إلى جانب فالتر بنيامين، شارك في هذه التجارب، في أوقات مختلفة، الفيلسوف إرنست بلوخ والكاتب جان سلز، والأطباء إرنست جويل وفريتز فرانكل وإيجون ويسينج وزوجة إيجون وجيرت ويسينج،. بعد توظيفها في الأصل كموضوع اختبار لجويل وفرانكل، اللذين أجريا أبحاثًا حول المخدرات، جرّب بنيامين عدة مخدرات مختلفة.
سجلات الاختبارات لم ترتب جيدا، وقد حفظت في شكل “بروتوكولات” حول المخدر. بعضها كُتِب أثناء التجربة، بينما يبدو أن بعضها الآخر قد جُمع لاحقًا بناءً على ملاحظات وذكرياتٍ شخصية.
يقول فالتر بنيامين في مقاله المعنون بـ “الملامح الرئيسية لانطباعي الأول عن الحشيش” والذي كتبه في صباح 18 ديسمبر عام 1927 :
“أطياف تحوم ـ ضبابية الحواف ـ فوق كتفي الأيمن. برودة في ذلك الكتف. في هذا السياق: لدي الشعور بأن هناك أربعة آخرين في الغرفة غيري” (تجاوزت ضرورة تضمين نفسي).
“قبض المرء على الموضع الذي يحتله في الغرفة ليس راسخا كما هي الحال في المعتاد. يمكن أن يتضح فجأة ـ بالنسبة لي اتضح ذلك بشكل خاطف ـ أن الغرفة كلها مملوءة بالناس”.
“بالنسبة لي كان الأمر كالتالي: نفور واضح من التحاور حول أمور الحياة العملية، المستقبل، التواريخ، السياسة. إنك مثبت في المجال الفكري مثلما يمكن لرجل ممسوس أن يكون مثبتا في الجنسي: تحت سحره، مغمور فيه”. عموما، يمكن أن نقول إن الإحساس بـ “الخارج”، بـ “الما وراء”، مرتبط بشعور معين من الاستياء. مع ذلك من المهم أن يتم التمييز بحدة بين الخارج والحيز البصري ـ مهما كان امتداده ـ تمييز بالنسبة للشخص الذي في نشوة الحشيش له نفس الدلالة التي للعلاقة بين المسرح والشارع البارد بالنسبة لرواد المسارح، بين الحين والآخر، مع ذلك تفصل بين المنتشي وحيزه البصري مرحلة تشبه الإطار المحيط بخشبة المسرح وعبر تلك يمر جو مختلف تماما من الخارج.
وفي “البروتوكول العاشر” يدوّن فالتر بنيامين ملاحظات الأفيون قائلا “ليس من إجازة للأفيون أكثر شرعية من الوعي الذي يمنحه باختراق مفاجئ لعالم السطوح الباطني، المستغلق بشكل عام، الذي تكونه الزخرفة. نعرف أنها تحيطنا في كل مكان تقريبا. مع ذلك فإن قدرتنا الاستيعابية تفشل أمام الزخرفة كما تفعل مع قليل من الأشياء الأخرى. في العادي نكاد لا نراها بالمرة”.
________
*العرب