هارون الرشيد وفساد صنعة الغناء


*نصير شمه


وجدت شكوى (فساد صنعة الغناء منذُ زمن الخليفة العباسي هارون الرشيد الذي تلقى الشكوى بمسؤولية وأمر بجمع أفضل ألف صوت (أغنية) ووضعهم في كتاب ليفصل الغث عن السمين. 
ووصل الأمر بمنع الكثيرين من الغناء في قاعات بغداد آنذاك، ليسود الجيد من الغناء، ولذلك لجأ غالبية المغنين إلى مدرسة الموصلي لتعلّم أصول الموسيقى والغناء ليتخرجوا بأعلى الخبرات المتاحة وليستطيعوا الإلمام بأصول الغناء السليم، وبهذا الأمر صحح هارون الرشيد صنعة الغناء في زمانه، وأسس تقاليد استمرت مئات السنين، ومن ثم انتقلت تلك الثقافة والعلوم إلى الغرب عبر زرياب، أهم تلامذة الموصلي، الذي أسس أول معهد للموسيقى في الأندلس ليشكل بدوره نهضة موسيقية، ولم يكتف زرياب بالموسيقى التي اعتبرها ضمن السلوكيات الإنسانية الضرورية فأضاف ثقافة الإتيكيت لدرجة أن أولاد ملوك وأمراء وأعيان أوروبا كانوا يفدون لمعهد زرياب ليتعلموا كل ما يحتاجه الإنسان ليصبح مثقفا ويفرض حضوره في المجتمع الذي ينتمي إليه، وكانت حينها مدرسة زرياب في الأندلس أشبه بكليات العالم المهمة اليوم. 
ولكيلا أحيد عن موضوعي أعود للغناء، مع أن الغناء لا ينفصل عن السلوكيات والإتيكيت، بل على العكس من هذا، فقد كانت وما زالت تقاليد الاستماع إلى الموسيقى والغناء في العالم أجمع ترتبط ارتباطا وثيقا باحترام ما يقدم على المسارح، من خلال اتباع بعض التقاليد الخاصة بالملابس والتحدث بصوت منخفض، إذا لزم الأمر أن يتحدث أحدهم أو حتى الوقوف للموسيقي أو المطرب عندما يبدع بإيصال ما يريد إلى جمهوره من فن راق، إلى آخر هذه التقاليد التي تمنع المأكولات والمشروبات في الحفلات الراقية.
إن الأصوات الحقيقة الموجودة اليوم في ساحة الغناء ودائرة الضوء، وخلال آخر ثلاثة عقود، هم من تحصلوا إما على دراسة حقيقية من معاهد موسيقية أو أكاديميات أو عملوا مع أصحاب مشاريع كبيرة مثل الموسيقار محمد عبد الوهاب أو رياض السنباطي أو الشيخ زكريا أحمد أو الرحابنة أو فريد الأطرش، وغيرهم من الكبار الذين شكلوا مدارس لحنية لم يسمحوا لصوت غير مدرب أو ضعيف بالظهور من خلالهم. 
إذن العلم والموهبة مع الرؤية والثقافة في كل الأحوال تصنع مشروعا متكاملا مع الأصرار والعمل الدؤوب يتحقق النجم الذي لا يخبو بريقه مع تقادم الزمن.
لو طرحنا اليوم على أنفسنا سؤال مَنْ من المغنين يقال إنه مطرب؟ ومن منهم لديه مشروع كما أم كلثوم وَعَبَد الحليم وفريد الأطرش، ناظم الغزالي، صباح فخري، فيروز، أسمهان، ليلى مراد، ومن غيرهم لديه سجلا متصاعدا من التأسيس السليم الذي يؤدي إلى رسوخ تجربته في أكبر قطاع من المتلقين، فكروا كثيراً بالجواب على أساس مرور عقدين على تقييم أعمالهم وإنتاجهم وماذا بقي من هذه الأعمال؟ ربما سنحصل على ثلاثة أو أقصى تقدير خمسة، لكنها ليست بمستوى الأسماء التي ذكرت لا من حيث جودة الإنتاج ولا التأثير العميق. في الموسيقى والغناء أسرار كثيرة جداً لا تبدأ بأغنية «تضرب»، كما يقال و»تكسر السوق»، بل هي أكبر من ذلك بكثير ودورها أهم من ذلك وتتعدى الصدفة بنجاح عمل ما، هي علم وتخطيط ورؤية كما أسلفت، واختيار منهج وطريق له ضوابط وأسس وشكل ومضمون ووراءه جيش من العاملين في مجال الإبداع ولم تنجح تجربة من دون كل ما ذكرت لأن النجاح تراكم وليس مصادفات متتالية مطلقاً. 
والمطرب صاحب التجربة والصوت والثقافة لا يلجأ إلى ملحن لا يساويه ثقافة وعمقا، وكذلك الملحن المثقف لا يلجأ إلى صوت لا يرتكز على معايير حقيقية للثقافة الموسيقية.
في كل يوم نستمع إلى مزيــــد من الألحـــان والأغاني التي تصعد بسرعة وتنتشر كانتشار الــنار في الهشيم، ومن ثم سريعا ما تخبو، تماما مثل نجم يسطع في السماء لليلة ومن ثم يأتي النهار فلا نعود نراه، على الرغم من أنه موجود.
المشروع الفني جزء لا يتجزأ من الثقافة الموسيقية، فالمطرب الذي يغني أي أغنية لمجرد أنها قد «تضرب» هو بالتأكيد مطرب لا يمتلك مشروعا فنيا، كما أن المطرب الذي ينتظر الملحن أو الشاعر ليأتي له بأغنية هو أيضا ليس صاحب مشروع فني، فالمشروع الفني يدفع بصاحبه للبحث، حتى لو كان بحثه يشبه البحث عن إبرة وسط أكوام من القش، ولنتذكر سيدة الغناء العربي أم كلثوم التي كانت تقوم بالاتصال بالملحنين والشعراء لتدفعهم نحو عمل غنائي لتغنيه ولا تنتظر أن تأتيها أغنية جاهزة، بل تسعى كل يوم وفي كل ساعة ودقيقة في بحثها.
نحتاج اليوم بشدة إلى إعادة تأسيس مفاهيمنا حول الغناء والموسيقى عموما، وربما نحتاج أيضا إلى زرياب يقف على باب المسارح العظيمة ليقول لنا انتبهوا قبل دخولكم فالرقص غير متاح هنا، ولا المأكل، نحتاج إلى إعادة توزيع الأدوار لنتعرف إلى الأغنية التي بوسعها أن تبقى معنا طويلا، والموسيقى التي تأخذنا إلى عوالم غنية ولا ننساها فور مغادرتنا المسرح أو فور إيقافنا لجهاز التسجيل.
نحتاج أيضا إلى التفكير بكل المناهج الموسيقية التي في معاهدنا، وإعادة التفكير بالمناهج الدراسية للأطفال منذ نعومة أظفارهم حتى نستطيع أن نؤسسهم تأسيسا صحيحا.
________
*القدس العربي

شاهد أيضاً

فرويد وصوفيا في جلسة خاصة

(ثقافات) فرويد وصوفيا في جلسة خاصة د. صحر أنور جلس سيجموند فرويد أمامها ينظر إلى …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *