إيف بونفوا: ذكريات مع بورخيس


*ترجمة: جولان حاجي


أقلّب، في ذاكرتي، صفحاتِ واحد من ألبومات ذكرياتي. فيه بضع صور لرجل أوحى إلي منذ البداية بانطواء حياته على عذاب عريق وعميق، لكنّ حياءه لم يسمح بظهور هذا العذاب أبداً.
ثلاث ذكريات، أولاها عن اللقاء الأول بيننا. في كمبريدج، ماساشوستس، سنة 1967. كان بورخيس قد وصل إلى المدينة لتقديم محاضرات تشارلز إليوت نورتن في هارفرد خلال ذلك الشتاء. كنتُ معجباً به، مقتنعاً بأنني سأحبُّ الرجل الذي كنتُ قد خمّنتُ طبيعته من قبل، قلتُ ذلك لخورخي غيّين الذي كان مقيماً في كمبريدج أيضاً، وكنتُ أراه مراراً كثيرة، سواء وحده، أو مع بول دي مان عند تناول الغداء. فقال لي خورخي: «وصل بورخيس للتو، سيقيم هنا. اكتبْ له، واطلبْ منه موعداً».
كتبتُ له، ثم انقضت عشرة أيام من دون تلقي أي جواب. إلى أن قال لي غيّين ضاحكاً: «هل تعرف؟ التقيتُ بورخيس بعد ظهر البارحة. فانتحتْ بي إلزا جانباً، لتسألني بصوت خفيض: «هل تعرف هذه المرأة؟» كانت رسالتك في يدها، وكانت قد خلصت -بسبب اسمك الذي نطقه بورخيس بصوتٍ عال- إلى ضرورة منع هذه المقابلة».
اسمي؟ إنه يُلْفظ مثل الاسم الإنكليزي Eve- حوّاء التي اختلّ بسببها كل شيء في هذا العالم. زوجة بورخيس- كان ذلك خبراً جديداً: قيل إن أمه قد فرضتْها عليه، بعد أن طعنت في السن وما عادت قادرة على مرافقته في أسفاره. على أية حال، حتى لو كان ما يقال صحيحاً، لم يدُمْ حضور إلزا في حياته أكثر من بضع سنين. لا يمكن أن نتخيل كائنين أشدَّ تبايناً منهما، وقد ضايق ذلك أصدقاء بورخيس القدامى وأربكهم، وكان العديد منهم مقيمين في كمبريدج.
أجابها غيين: «أنتِ مخطئة. المرسل ليس امرأة، إنه أحد أصدقائي. لن يكون خطراً عليك، دعي بورخيس يردّ على رسالته».
هاتفني بورخيس ذات مساء. وافق على القدوم لتناول العشاء لدينا في جادّة فرانسيس. كنا قد استأجرنا، زوجتي وأنا في إقامتنا تلك التي دامت قرابة سنة واحدة، منزلاً خشبياً صغيراً ملاصقاً لمنزلٍ أكبر يطلُّ على الشارع بين عمودين خشبيين، ويرتفع عن الأرض أربع درجات أو خمس. شغفنا بهذا المكان، المتواضع كمثالٍ عن طريقةٍ معينة من الوجود في العالم، شغفنا بالأرضيات الخشبية وصريرها، بالنوافذ التي يلامس الشجر بلّورها- لعل هذه المنازل هي السبب وراء الحنين لدى الذين يغادرون نيوإنغلاند، حنين لا نهاية له. أضرمنا ناراً في الموقد: فحيناً كان الفصل ربيعاً، وأورقتِ الأغصان في كل الأرجاء، وحيناً آخر كان الخريف، فاحمرّت كلُّ تلك الأوراق واصفرّتْ ثم تساقطت في انهمارٍ كثيف وتقصّفت بنعومة تحت خطواتنا. وسرعان ما تساقط الثلج. أثلجتْ يوم جاء «بورخيس وعقيلته» لتناول العشاء.
ما كنتُ قد التقيته من قبل أبداً. فور التقائنا، بتلك الثقة التي يمحضها دائماً كلَّ الذين يسعون إلى لقائه، لم يلبث أن وضّح قائلاً إنه عائد للتو من كونكورد، إذ كان متلهفاً لزيارة منزل هاوثورن. كان إعجابه بناثانيل هاوثورن كبيراً. فركع على عتبة منزله، رغم البرد القارس وتهطال الثلج، إخلاصاً لهذا الكاتب العظيم، وربما أيضاً بسبب الحياة التي أمضاها هاوثورن هناك، في مجتمع مفعم بالإيمان- حتى لو كان إيماناً لا يعتنقه بورخيس بالتأكيد. ثم سألني: «هل قرأتَ «ويكفيلد»؟»
ما كنتُ قد قرأت «ويكفيلد»، فلخّص لي بورخيس هذه الحكاية بالفرنسية. يخبر رجلٌ زوجته بأنه سيغيب يوماً واحداً أو اثنين. يغادر مع «ابتسامة بلهاء» «sourire idiot». لكنه يتوقف بعد بضعة شوارع. ويسأل نفسه، فيمَ الذهاب إلى مكانٍ آخر؟ فيعدل عن رأيه، ويحجز غرفة في فندق قريب، مخططاً للعودة إلى بيته يوم غد.
وفي صباح اليوم التالي، يفكر ويكفيلد: «لماذا سأعود اليوم إلى البيت؟» وهكذا يؤجّل عودته، أياماً وأسابيعَ وأعواماً. لكنه، طوال هذا الوقت، يبقى قريباً جداً من منزله- على بعد خطوتين، إذا جاز التعبير. كثيراً ما يمرُّ أمام هذا المنزل، متنكّراً. ومن حينٍ لآخر، يلمح زوجته في الشارع، عن بُعد، وقد تقدّم بها العُمر، يقول بورخيس معلّقاً. لا يقوم ويكفيلد بأي شيء خارج عن المألوف، فهو طوال عشرين عاماً لا يعاشر إنساناً واحداً، ولا يعرف شيئاً عما يجري.
وذات يوم، أثناء عبوره شارعَ بيته مرة أخرى، تحت المطر، يدفع به هبوب الريح صوب بابه. فلمَ لا يدخل؟ يقول لنفسه. يقرع الجرس، ويدخل ويستأنف حياته السابقة، مع تلك «الابتسامة البلهاء» نفسها التي ارتسمتْ على وجهه لحظة مغادرته.
مؤثرةٌ هذه الحكاية، وبورخيس يرويها بتأثرٍ واضح للعيان. نحن في واحد من منازل عصر هاوثورن، في هذا الشتاء القاسي، وفي الموقد نارٌ تجثو أمامها مرافقةُ زائرنا، وثمة سدادة قنينة نبيذ مغروزة في طرف المِسْعَر لأنها تريد أن تُرينا كيف بإمكاننا استخدام الفلين المتفحّم في المكياج. قلتُ في نفسي إن أحد الأسباب التي شدّت بورخيس بتلك القوة إلى الولايات المتحدة متصلٌ بمنازل هذه البلاد، فقد وفّرت هذه المنازل لهاوثورن بساطة العيش ليتسنى له تأمل الله والمجتمع وحياته الخاصّة. لعل هذا هو السبب وراء تفكير بورخيس بقصة «ويكفيلد»، هذا المساء، لدى عودته من كونكورد. ولكن ماذا عن «الابتسامة البلهاء»؟ إنه يكرر هاتين الكلمتين بتوكيدٍ صريح. هذه الصفة مفاجئة بعنفها في سياق سردٍ يزخر بأرهف التفاصيل، فأتساءل حول الكلمة الإنكليزية التي ترجمها بهذه الطريقة هذا القارئ الفذّ الذي يجيد الفرنسية.
في اليوم التالي، قرأتُ «ويكفيلد»، وأعدتُ قراءتها من جديد هذا اليوم. لدى هاوثورن كذلك، ابتسامة ويكفيلد هي حجر الزاوية في الحكاية. فيصفها الكاتب، ويصوّرها أيضاً بعيني زوجته – التي تحسب أنها قد ترمّلت – عندما تسترجع الرحيل المفاجئ لزوجها، ولكي تفهم ما جرى له، تضفي تلك الابتسامة الغريبة على ملامح زوجها الميت، تلصقها بوجهه الذي فارقته الحياة. غير أن الكلمة التي استخدمها هاوثورن لا تمت بأية صلة إلى نظيرتها الفرنسية idiot؛ فهو يتحدث عن «ابتسامة ماكِرة crafty».
«crafty» صفةٌ ثرية وجميلة، على الطرف النقيض من الصفة الفرنسية idiot، إذ لا تغيب عنها معاني الفطنة والمهارة، أو البراعة الخالصة في صنعة أو حرفة من الحِرف التي غالباً ما تتطلب دقة وحذقاً؛ ولكنّ هذه الكلمة، بمرور القرون، باتت تشير إلى الازدراء، ولم يكن تلافي هذا التحول الحاسم في المعنى ممكناً. ومع ذلك، فإن الكلمة التي اشتُقَّت منها craft قد نجَتْ إلى حد معين من هذه الأحكام. كأننا نشعر، غريزياً، بأننا سنجد الحرية الممكنة إذا برعنا في إحدى المهن، ونجد في سطوة الشر وعداً بخير حقيقي. باختصار، تعكس crafty هوس المسيحية بالشرّ الذي نقلته سفينة ماي فلاور [من بريطانيا إلى أميركا]، محمَّلةً بمخاوف موغلة في القدم؛ أما craft فتحافظ على معاني المهارة والبراعة في بعض الأعمال المعينة، لا سيما ذات الطبيعة اليدوية، وهي قائمة في صميم المجتمع.
هكذا استنتجتُ أن بورخيس قد فكّر بكلمة crafty من غير بدّ، عند استخدامه idiot الفرنسية، فأتت صفة «بلهاء» بمثابة تعليق وليس كإدانة- أراد الترجمان أن يجد في ارتجال ترجمته عُذراً لويكفيلد – مبدياً احترامه وتعاطفه معه، إضافة إلى افتتانه.
لا يسعني إلا تذكُّر أن محاضرات نورتن التي كان بورخيس سيلقيها في هارفرد – قِبلة المتبحّرين في الثقافة – حملت عنواناً وجدتُه مستفزاً، وهو «صنعة الشعر»، إذ تراءى لي متعارضاً مع تراث كامل من التفكير في تاريخ الشعر: منتقلاً من فكرة الشعر كحدثٍ أو سببٍ في التجربة الروحية، إلى القصيدة بوصفها منتوجاً، مونتاجاً للنماذج، غرضاً لفظياً يمكننا أن نوكل به إلى البلاغة، مهما تهافتت أدواتها.
ألقيت المحاضرات في مواعيدها، وتداعى إلى المحاضرة الأولى، على الأقل، مثقفون بارزون من الشاطئ الشرقي للولايات المتحدة- بدءاً من نيويورك. اشتهر بورخيس بالمماطلة هنا، بعد سنوات عديدة من الإرجاء غير المبرَّر لهذه المحاضرات. لكنه يبقى مؤلفاً بالغ الرهافة، أو صاحب أسلوب صعب، وقد فوجئ به الكثير من المستمعين. تراني حلمتُ بهذا المؤتمر؟ سوف تخونني ذاكرتي قدام محاضرته بالتأكيد، لا بل سأشوّهها، وقد يُشتكى من أنني مخطئ، لكنّي لا أزال عاجزاً عن محو الانطباع الذي خلّفتْه عندي كلماته الأولى. كان بورخيس يتكلم من دون أوراق، لأنه عاجز عن استخدامها. في الواقع، لم يستمرّ حديثه طويلاً، إذ بين الفينة والأخرى كان يرفع ساعة كبيرة من على الطاولة ليقرّبها من عينيه. مرة أخرى، بدت تعابيره – بالنسبة إلي، على أية حال – مجرد تبسيطٍ الغاية منه هي الاستفزاز. قال: «لاحظ الصينيون إن هناك ألف كلمة فقط. ليس هناك الكثير ليُضاف إليها. ربما باستثناء أن هناك عشرة مجازات».
ثم راح يعدّ المجازات العشرة. على سبيل المثال، الوقت نهرٌ يجري، أو المعركة جحيم. ثم أردف بهذه الملاحظة في النهاية: «آه، لعل هناك مجازاً آخر يستحقّ اهتمامنا. لقد جازف شاعر أميركي، هو إ. إ. كامِنغز، بكتابة: «وجه الله يلتمعُ مثل ملعقة»»، وبعد تأمل، اختتم قائلاً: «كلا، لا يمكن إدراج هذا المجاز ضمن القائمة».
ربما بالغتُ في التبسيط بدوري. على أية حال، كانت خيبة العديد من مستمعيه كبيرة عند انتهاء المحاضرة. بعدها، التقيتُ ببورخيس في الممر، فسألتُه «ماذا ستفعل بمالارميه، إذن؟» «آه، مالارميه- إنه معقَّد جداً». «فإذن، ماذا عن بودلير؟» «بودلير؟ إنه متكبّر»، أجابني بكامل الجدية.
كان يحلو له ترديد إن أفضل الشعراء في الشعر الفرنسي هو فرلين أو بول-جان توليه الذي أولاه حباً خاصاً، متجاهلاً الشعراء العديدين الذين صنعوا حداثتنا، وكثيراً ما نتداول أفكارهم حول الشعر ودوره في وعي الذات. كان من السهل فهم رفضه هذا الذي طال الكثير من القيم ومناحي الحياة التي كان يتخيّلها بوصفها تقاليدنا الفرنسية. على الشعر الالتفاتُ إلى ما هو مهمّ حقاً، أي العطف بما يفضي إليه من تواضع. أولئك الذين يرغبون في رفع الشعر إلى مستوى ذهني أرقى ليسوا إلا متكبّرين لا يريدون القبول بالحدود الضيقة للظرف الإنساني. مبالغاتهم توقِع بالشعر فريسةً للشرّ الذي قد ينتصر عبر تدخلاتهم هذه. خيرٌ لهم لو كانوا بلهاء مثل ويكفيلد، إذ سيسهل عندئذ إبداء العطف الذي يستحقُّه كل شخص على المنصة العبثية لهذا العالم.
أعتقد أن هناك أسساً قوية لمثل ذلك النوع من النقد، بل هو، في الواقع، ما يشدّني لدى بورخيس. إنه، في تصوري، يعزز عظمة كاتب كثيراً ما وُصم بالعاجز عن الحبّ، غير أنه كان مبرَّحاً بألم أولئك المحيطين به وفنائهم، متوجّساً من اكتفائنا بأن نكون أنفسنا فحسب، فقد يسبب ذلك لدى الآخرين أذىً لا يمكن ترميمه، كما شرح ذلك ببساطة مدهشة في قصة «حديقة الدروب المتشعبة». العطف – والإحساس بالعجز الذي يتبعه – هو بالتأكيد سبب العذاب الذي أشرتُ إليه في بداية هذه السطور بوصفه شيئاً جوهرياً لدى بورخيس، ولصاحب هذا الموقف الحقُّ في إطلاق الأحكام، حتى -أو قبل أي شيء آخر- في الأدب.
لكن فكرة بهذه الشمولية لا تنطبق بالطبع على حالة مالارميه أو بودلير اللذين ليسا معقَّدين أو متكبّرين، وكان بورخيس يعرف ذلك جيداً شأنه شأن كثيرين. رفضُه لهما في ذلك المساء، كما في أوقات أخرى، لم يكن يستهدف نيلاً من هذين الشاعرين العظيمين على الإطلاق، وإنما استهدف بالأحرى الرجل العظيم الذي كانه بورخيس نفسه: كان يخشى التعقيد ويرفض التكبُّر. كان يرى في الكتابة تسييجاً للذات-أو بعبارة أخرى، قتلاً للآخر- وكلما كانت كذلك ازدادت أهمية الكاتب. كان مثال مالارميه أو بودلير يوضح مأزقاً شخصياً لديه، وبإطلاقه هذا الحكم القاطع عليهما اطمأنّت نفسه وتوقّفتْ هذه الشبهات عن إقلاقه.
___________
*كلمات

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *