في ضيافة هيرمان هسه




* مشهور البطران


خاص ( ثقافات )
سبعُ ساعات من السفر في باص البريد من (دوزلدورف إلى توبنجن). لم لا، حين يتعلق الأمر بمدينة رومانسية مثل توبنجن التي تكللها الغابات ويحتضنُ خاصرتها نهران، فهي إذن تستحق هذا العناء.
كنت قد تلقيت دعوة كريمة لزيارة هذه المدينة من صديقين عزيزين: السيد بيتر وشريكته جابي، زوج لطيف وكريم، تمامًا كما هي مدينتهم اللطيفة. 
وصلت المدينة قرابة الساعة الثانية ظهرًا. يوم جميل ومشمس، على غير ما اعتدت عليه في مدن الشمال المطيرة. الشوارع ضاجة، الألمان خرجوا يرحبون بشمسهم التي طال غيابها، في حين بيتر وجابي رحبا بي على طريقتهم. لقد أعدّا سلفًا برنامج الزيارة، كل شيء محدد مسبقًا، هذه هي الحالة في المانيا، لا شيء متروك للعفوية أو للصدفة.
بيتر وجابي يعرفان ما يثير اهتمامي، لقد بدأنا ارتحاليتنا بفنجان قهوة في مقهى فريد، المكان أضيق من أن يسمى مقهى، فرادته تكمن في كونه دكانًا لبيع النبيذ، لكنه المكان الوحيد في توبنجن الذي يجمع بين القهوة والنبيذ. في المقهى ثمة شرفة صغيرة تتسع لإثنين، تطل على قلب المدينة، المحظوظون فقط هم من يجلسون هناك، نحن ثلاثة على أية حال حتى لو حالفنا الحظ فلن نجلس فيها.
صعدنا طريقًا جبليا نحو قلعة توبنجن التاريخية، في الطريق صادفتنا لافتة فوق مقعد خشبي يتسع لثلاثة أشخاص، ومكتوب عليها عبارة تعكس حس السخرية والمرح باللهجة المحلية (الشوابية): على هذا الكرسي جلس الناس الذين جلسوا عليه. في الطريق ذاته صعودًا نحو قمة الجبل ثمة لافتة أخرى مكتوب عليها باسلوب أكثر سخرية: هنا تقيأ (جوتة) ذات مرة.
القلعة القوطية المعمار الرابضة على قمة الجبل آية في الجمال، فيها متحف يحكي قصة المدينة منذ الف عام.من هناك تطل على مدينة صغيرة وجميلة تجمع ما بين الحداثة الأوروبية وعراقة العصور الوسطى. ظننتُ لوهلة بما أننا في الذروة، أن الجولة انتهت، لكن بيتر وجابي خبأا لي المفاجأة لآخر لحظة.
في طريق عودتنا من القلعة عرجنا على متحف صغير، على مدخله صورة للكاتب الألماني هرمان هسة، حين دخلنا، اكتشفنا أننا في مكتبة، تضم آلاف الكتب القديمة المجلدة على الطريقة الكلاسيكية اليدوية. بعضها يصل عمره مئات السنين. الكتب متراصة بشكل كثيف في رفوف أنيقة. في زاوية من القاعة ثمة سيدة لطيفة تعكس ابتسامتها ومرحها دماثة الشعب الألماني الذي يعرف كيف يستقبل ضيوفه. رحَّبَتْ بنا وقدمت نفسها باسم (كرستن). أخذتنا في جولة فعرفت أنني في مكان هو بمثابة المكتبة التي عمل بها هيرمان هسة في اكتوبر عام 1895. ثمة آلاف المكتبات في المانيا لم أسمع عنها شيئًا، وهذا أمر طبيعي، لكن هذه المكتبة تخلدت في التاريخ بما هي المكتبة التي عمل بها هسة. انها محطة من محطات خياته التاريخية، هنا اتيح له أن يبحر في عالم الفكر والفلسفة ويغذي شغفه المعرفي.
باسلوب جذاب ولطيف راحت السيدة كرستين تشرخ لنا بعض المحطات الهامة في حياة هرمان هسة، في يدها خارطة وضحت لنا من خلالها رحلة هسة الى سريلانكا واندونيسيا وسومطرة. إنها مرحلة التصوف بحثًا عن الإلهام الروحي كما وصفتها.
هنا تذكرت عملين مهمين كنت قراتهما في سنوات قريبة، الأول (لعبة الكريات الزجاجية)، والثاني هو (سيدهارتا)، عملان يشتركان في كونهما مسربلين بنزعة روحانية شديدة التصوف. أذكر حينما تُرجِمت لعبة الكريات الزجاجية الى اللغة العربية كانت واحدة من الروايات الأكثر مبيعًا، اقتنيت نسختي من إحدى مكتبات رام الله في فلسطين. وكان هذا الكتاب بمثابة البوابة التي فُتحت لي للاطلاع على معظم اعمال هذا الكاتب العظيم.
أخيرا أود ان أختم بمقولة سمعتها في مكان ما : “ثمة أمكنة نعيش فيها، وأخرى تعيش فينا” هذا القول ينطبق على مدينة توبنجن كما ينطبق على مكتبتها الأكثر شهرة، مكتبة هيرمان هسة.
المانيا 10-7-2016

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *