لينا أبوبكر *
لنتفق أولاً على كون الجنون أسمى حالات الإبداع الفني على الإطلاق، ثم بعد ذلك قد نختلف كما نريد، حين تصدق أو لا تصدق أن التعريف الأوحد للعقل هو الجنون! إنه هندسة الجوهر المتحرك، بمحاذاة الجحيم، لا يتغير بذاته ولكنه كالروح، قابل للأضداد، ووثاب من رأس فوهة، كأنها قبلة الرصاص على فم البندقية.
إنه قلق، يتخذ شكل اللذة والإمتاع في مؤانسة الإبداع، قوامه كينماتيكا طلقة تقطع المسافة بين الواقع والمخيلة بانزياحات عقلية شاسعة عن مركز الدماغ، دون الوقوع في الوهم الذي يشوه الإحساس، ممتلكا ناصية الحرية لا الإلزام، والوعي لا المرض، والمعرفة لا التخبط، طالما أنه مؤثر حساس على الحواس، يتغلغل في النسيج العصبي للإحساس بما هو غير محسوس، شبيها بالهلوسة التي تولد الأفكار من اللاوعي وتنقلها إلى الوعي بلا أي خلل وظيفي للقدرات الميتا إدراكية، التي تميز بين الدواخل الذاتية والتأثيرات الخارجية.
هناك في بوابة القلعة «مرتع الحكماء» في الكوميديا الإلهية، تقع أقرب بوابات جهنم إلى الجنة، بينما يضع دانتي العقول النائمة في أعلى درجات الجحيم، لأنها تبتعد عن التفكير، وتوقظ الوحوش في لوحة الإسباني غويا.
الجنون هو العقل المتحرك، المقاوم للسكون، المحفز على اليقظة التي يعتبرها سيغموند فرويد انسحابا عصابيا من الواقع، وهو انسحاب إرادي واع لأدوات الرفض، لا يفقد سيطرته على العقل، بل يختار اللحظة الحاسمة للانسحاب منه والعودة إليه، معززا بطاقة إبداعية تفصله عن التشخيص المرضي، لأن الجنون – فنياً – يعني التمكن من تحرير ظواهر اللاشعور، وهو بالتأكيد ما يعجز عنه المريض النفسي.
حرية الجنون عندما تكون مجنونا تكون حرا، وخطرا، لأنك تمشي على صراط الشعرة الفاصلة بين الهذيان والعبقرية، وهذا ما يجعل من التوازن مركز الثقل والخفة، الوعي وغياب الوعي، اليقظة واللايقظة التي لا تعني النوم، واللاسقم والسقم الذي لا يعني المرض، وكلها متقابلات مندغمة في ذات المبدع التي تتراوح بين الضد وضده، دون أن تخلخل النظام الحركي للجنون أو تقارب الأرجحة، مما يؤكد أن الجنون قابل للقسمة على ضدين، وربما يكون قيس ليلى اختزل هذه المراوحة بالبيتين الشعريين: ألا أيها القلب اللجوج المعذل أفق عن طلاب البيض إن كنت تعقلوقوله: تعود مريضا أسقمته بهجرها ولو عادته عاد لا يعرف السقما ليس في الإبداع هنا ادعاء، والأمر ينطبق على الجنون، فهو ليس ذريعة الشاعر إنما خلاصه، بل إنه الميكانيزم الدفاعي، والأداء التعبيري الذي يندرج في بند الفلسفة الأخلاقية كأنه حقيقة خالدة، ومخرج عبقري من الهزال العقلي، والمستنقع الذهني الراكد في مجالات الكبت أو القمع الواقعي، لأنه عنصر البوح للطاقة الشعورية المختزنة، ضمن أطر فنية، تتجلى كقوة دفع غيبية قادرة على تحليل الظواهر الحقيقية باستشرافات مجازية تجهل المقاصد والقواعد التي تحكم المحلل النفسي – حسب فرويد – وتمارسها دون نية مسبقة كونها استعدادا فطري ربما يكون أقرب إلى تعريف «يوسا» للإبداع، مع الأخذ بحنكة الوعي بمقومات المجاز وهو ما يشي بنضج كلي للإرادة، التي تتمم هذا الاستعداد، والتي تحيز لها «سارتر»، ليكتمل نصاب الجنون.
وكل هذا لن يعني أنني أنتمي للمدرسة الرومانسية التي تصدت للذائقة البرجوازية، بل إنني أتحيز للألم غير الجمالي!.
يا أيها الألم، أحبك.
ولكن! يعتمد الأمر بالدرجة الأولى على مقدار الجرعة، كلما كانت مضاعفة، تفاقمت حساسية التعاطي مع المخيلة كعلاج من اللا ألم، فإنك إذ تتخيل تتمرد، إلى الحد الذي تضيف لك مخيلتك شحنات كهربائية من الأيلام، تعينك على الرقص عاريا في ملكوت نيتشه الذي كان يمكن أن يكتفي بالقليل من التأثر ليكون طبيعيا، بعد أن رفضته تلميذته التي عشقها، لكن إرادة الجنون، جعلت منه اختراقيا، تمرديا، لا يقبل بما هو اعتيادي وطبيعي، فاللعب مع الألم بأصابع النار، لا يحرق بل يلهب التكهرب.
المجنون، المبدع هو اللامنتمي، فإن لم تكن مجنونا، عليك أن تكون! جاذبية الجنون وبين الاستعداد الفطري دون توافر النية المسبقة، والوعي المتجلي بالإرادة دون إدراك تقنياته التحليلية، ما يجعل من الجنون صناعة، أو اقترافا للمس عن سابق إصرار وتعمد، في سبيل الانسجام مع العقل لا الاتصاف بالعقلانية.
الجنون جاذبية نحو المنطقة الرمادية بين الخوف والطمأنينة، بالتالي هو صمام الأمان للقلق الإبداعي، وقد أحس المبرد «أبو العباس» بخاصية الجذب عند المجانين، ولهذا ارتاد مجالسهم مفتونا بالفناء الخلفي للعقل، الذي يوصل لأوج التجلي المونولجي، متشظياً بالحكمة التي لا تخضع لوعي متسلسل، بقدر ما هي أقرب إلى البدائية الممهورة بالبراءة، العائمة في تجريد زمني مرن ومتراخ، متمم للسمات الإبداعية للمس، وهذا ما دفع الولْيَمَيْن: شكسبير وفوكنر، للارتكاز على شخصية «المجنون» وإخراجها من لوحة، ويليام هوغارث، التي زجت بالمجانين في دور الرعاية النفسية عام 1735، وأوثقتهم بالسلاسل، لتشي ببمارسات تعذيبية قد يكون هدفها المضمر ضبط الحس الفلسفي عند هذه الفئة، وإن كان التحايل عند فوكنر وشكسبير هو أساس هذا التحرير، لأنهما تقمصا الحالة الذهنية للمجنون، بعيدا عن مؤثرات علم النفس، مما قادهما إلى دوزنة النص الأدبي على إيقاع العقل المتشابك، حتى يصلا إلى حبكة الجنون من خلال اقتناص الدهشة في العقل الأعلى ضمن مستويات الوعي الإبداعي، بمنأى عن الفحص السريري للغة، حينها لن نسأل لماذا ربط ميشيل فوكو بين الجنون والحضارة، خاصة حين اعتبر الأول ظاهرة ثقافية، مع التسليم باعتبار فوكو للجنون هوية مرضية، لأن آلية الجنون لا تتطلب التحكم بالأعصاب والانفعالات بقدر التحكم بالوعي، مما يجعله هوية إبداعية.
والتاريخ شاهد عيان على خاصيته الخارقة التي دفعت الشعوب القديمة لتقديم القرابين والنذور لكل من أصابه مس قائم على امتحان التفاعل بين اللاعقل والوعي، دون غض الطرف عن كل ما طرأ من تغيرات على النظرة الشعبية في الفلكلور التراثي للشعوب حول ظاهرة الجنون، فقد نقلتها من مرحلة التقديس إلى مرحلة السخرية أو الخطر المرضي! الجنون بين الغيب والسوداوية إن تأملت لوحة الإنجليزي وليم بليك لنبوخذ نصر بهيئة نصف بشرية ونصف حيوانية، معبرا عن هواجس الاستذئاب التي ألمت به، فقادته إلى الجنون، ستلمس عمق الحس السوداوي للجنون في اللوحة، لأن الجنون بالنسبة لنبوخذ نصر البورتريه، تجربة إبداعية، تنهكها ظلال الوحدة والشراسة، فكلما نظرت إليها وأعدت النظر مرات ومرات تتوقع نتيجة مختلفة، وهو تصور ألبرت آنشتاين عن الجنون، كأنني به يحيلك على غيب الغيب، ففي هذا المس التأملي نبوءة، تحيرك، هل توافق فرويد بأن الفن هو طفل العصاب؟ أم تخالفه لترى الجنون طفل العصاب الفني؟ لا تحتر أبدا، لأن علامة الترقيم بين جملتي اللذة واللذة هي التي قادت فيرجينيا وولف لخوض تجربة الغيب «الجنون» لتجاوز الواقع والمخيلة معا.
الجنون في سلم العقل لا يحتاج المجنون للعلاج، ولا للإيواء في البيمارستانات، لأنه في حقيقة الأمر يعالج الوعي الجمعي حين يتحيز للمضطَهدين، والمبدعين، ويغفر لعمر بن أبي ربيعة غزله الحسي الذي يحيلك إلى التجريد الجنسي عند فرويد في التشخيص لحالة الجنون التي تبرهن المراحل الزمنية على كونه أعظم مدرسة فنية تخرج منها العقلاء والعظماء والأبالسة.
بن ربيعة يرفض ارتباط الجنون بالعقل الأعلى، فينزله إلى العقل الأدنى، بكامل أبهته الإمتاعية، فهو بين المرتبتين، إيثاري ونرجسي، وكما ذكرنا في بداية هذه الكتابة، أنه قابل للأضداد، وديناميكي، ومتمرد، بالتالي هو فعال، كونه مدهشا في كل مستوياته العقلية.
هناك جنون بودليري، أيضا، صبغته السواد، وهناك جنون أبيض بدائي بحس استكشافي طفولي، وهناك هناك جنون محايد حمال أوجه، مراوغ، يتلذذ بإصابتك بدوار روحي فوق خيط المخيلة في مملكة الجحيم.
أنا أبدع إذا أنا مجنون.
فديكارتية العلاقة بين المجالين توحي بنشاط خطر للجنون على اعتباره الخلية النائمة في ملكوت التحفز الذهني لليقظة الإبداعية، يعني: أيُّ وجود هذا الذي يتزأبق في ميزان إبداعي يجس حرارة المجاز في اللغة كلما ارتفعت درجة غليان العقل، وانبجست أسارير الحكمة، ليتورد الدم في حقل الجنون؟ يا صاحبي، تعال إلي، كي نصاب على مهل بعوارض اللذة، ونخوض تجربة ثقافية فذة، ننتصر فيها للغيب، نملأ جيوبنا بالحصى، ونمشي فوق الماء، ورويدا رويدا، حيث يستبد الثقل، نستسلم للخفة، ونموت معا من الجنون! فهل أكتفي أم أزيد؟!
* كاتبة من فلسطين والأردن
______
*الاتحاد