في براغ وفي ضيافة كافكا


رلى راشد

كان يصعب المرور بالعاصمة التشيكيّة براغ من دون التوقّف في متحف كافكا، فسحة الكاتب الأدبّية-الشخصيّة التي تأخر إنشاؤها إلى عام 2005. عند أحد طرفي جسر الملك تشارلز الرابع أو “تشارلز بريدج” كما يرِدُ في دليل السيّاح، يقابلنا احد مباني “مالا سترانا” أي البلدة السفلى في هيئته الخارجية البسيطة على المستوى الهندسي وحيث لا مبالغات.

ثمة تناقض لافت بين المبنى المتقشف بطبقتيه الذي نلمحه من مسافة وبين التمثالين المُستفِزّين على بعد خطوات منه لرجلين يقضيان حاجتهما في حوض يتّخذ شكل خريطة الجمهورية التشيكية، وأنجزهما النحات التشيكي المثير للجدال دافيد تشيرني.
يمكن وبسهولة تحديد المدخل إلى “متحف كافكا” بفضل حرف الكاف بالأجنبيّة K الذي يتقدّمه ويبوح بأن عالم كافكا ينطلق ها هنا. ليست الكاف الحرف الأول في شهرة كافكا فحسب إنها الحرف المحوري في كتاباته أيضا. تحيل على جوزيف ك. في “المحاكمة” وعلى شخصيّة “ك.” في نصه غير المنتهي “القصر”. يصير المتحف على هذا النحو مدينة الكاف في شتى المعايير.
يختار المتحف على ما يبدو، في الجزء الأكبر منه في الأقل، التركيز على صلة إشكالية كان طرفاها الكاتب من جهة ومدينة براغ من جهة ثانية وحيث صرف الجزء الأوفر من حياته الوجيزة. والحال ان كافكا وصف مدينته بأُمّ لها مَخالب ومنعته من الإفلات منها تالياً. وفي القول وضوح لا يحتاج إلى تفسير.
يتوزّع المعرض المُتنقل والذي صار متحفا ثابتاً في مرحلة لاحقة، في جزءين. في الأول إستعادة لحوادث ومراحل حياة كافكا الأدبية الفرديّة التي باتت كونيّة فضلا عن مصادر إلهامه، وفي الثاني تصوير سمعي وبصري لمناخ سطا على منجز الكاتب التشيكي وحيث بان تحوير الواقع عملة سائدة.
المجيء إلى “متحف كافكا” مناسبة لإتمام الجولة التي تبدأ في شوارع براغ وفي وسط ناسها. نأتي إلى معيش الكاتب وطفولته حيث يحوطه والده هرمان وتعرض احدى الصور محلاً كان يملكه ويعلوه شعار الغراب وهو معنى شهرة “كافكا” بالتشيكية. ها هنا الأبّ الذي وجه له الإبن رسائل لن تصله وجعله يختبر تنويعا جديدا على عقدة أوديب الفرويديّة.
المتحف تجربة في ذاته من حيث التصميم الداخلي والمفهوم ويستدرج الزائر ما أن يسلّم بطاقة الدخول إلى عاملة الإستقبال، إلى جوّ البارانويا والهلع والسواد الكالح. ندخل المتحف فنصل في اللحظة عينها إلى عالم كافكا المقلق وهذا خيار جسور لأنه يقحم الزائر في دوامة كتاباته فتتسلّل إليه العذابات نفسها التي اختبرها صوت إرتاب من جسده ومن منجزه التأليفي على السواء.
لا يتردد “متحف كافكا” في استدعاء التجهيز أيضا فتعتقل نساء كافكا في صناديق مضيئة تروي كل واحدة سيرتها المشتركة مع الكاتب والتي باءت بالفشل دوما. هناك فيليس باور التي خطبها مرتين وتركها مرتين وجولي التي تشارك معها البرء من المرض. وهناك أيضا ميلينا التي امتهنت الصحافة وكانت أولى مترجمات نصوصه وسمّاها “النار” لتُثابر على حبه بعد انفصاله عنها وإن من عتمة معتقل رافينسبروك، وهناك الرفيقة الأخيرة دورا كذلك.
وكما في كل مرّة، شكل الإنغماس في الكتابة، الإنتقام الأنجع من فشل كافكا في الحب.
في احدى الزوايا نسخ أولى من أعمال الكاتب وفي أخرى كليشيه يظهره في الخامسة عشرة بين زملاء المدرسة، بعيداً، في الصف الأخير. في حين تحوي طاولة زجاجية دائرية صوراً لثلة من كتّاب براغ تحدثوا الألمانية، كما كافكا، واعتادوا اللقاء في “مقهى أركو”. تمهّل الكاتب عند هذه الحلقة من الأصدقاء في رسالة إلى صديقه ماكس برود ليكتب “يعيشون محاطين بثلاثة احتمالات: استحالة عدم الكتابة واستحالة الكتابة بالألمانية واستحالة الكتابة على نحو مختلف، ويمكن ان تضيف أمرا رابعا، استحالة الكتابة تماما”.
في المتحف مخطوطات بخطّ كافكا ولوحات زجاجية مضيئة على خلفية معتمة دوما تروي شذرات من حياة متطلّبة في مدينة حَمَتهُ من العالم الخارجي الإمتثالي. أقام كافكا في متاهة أو في دائرة كما سمّاها، اختصرت حياته برمتها. انها براغ مجددا. مكان سحره وخنقه في آن معا وكان القفص والملاذ.
يرافقنا شريط صوتي على مرّ الزيارة وهو مؤرق تماما. ثمة نعيق غراب لا يفارق الأذنين وهدير إلى حفيف، كأننا في استعادة سمعية لتلاطمات داخلية نفسانية شعر بها كافكا الإنسان المنزعج من ثوبه الجسماني. أو كأنها استعادة لقصته القصيرة “صخب” حيث وصفٌ لتلوث سمعيّ تعرض له في منزل والديه: “أسمع الأبواب توصد… أسمع صفق أبواب الفرن في المطبخ، حتى”.
من طريق مسار حسّي وتَعلُّمي، ندخل ومن دون جهد، الى هندسة كافكا الأدبية. نسترجع حكاية الإصدارات الأولى المعقدة بسبب نبذ كافكا للماكينة الأدبية. وها إنه يفصح في “اليوميات” “لست سوى الأدَب” ليستعيد صراعا عاشه بين مهنة المحاماة ورسالة التأليف. شعر كأنه “العميل المزدوج” ينصرف إلى مهنة المحاماة في خدمة البيروقراطية النمسوية الهنغارية من جهة ويمارس الأدب من جهة ثانية نشاطا إستنفد جميع قواه ليجعله غصباً عنه شاهدا على قرن برمته.
نمرّ أيضا بمرحلة الرسم التي بدت خيانة إضافية للكتابة عند كافكا. بقي نحو خمسين رسما من مجمل ما أنجزه ويقدّم متحفه البعض منها تشي بأسلوب انطباعيّ جلي. تأتي كدليل على إنحدار روح كافكا صوب هاوية الصفحة البيضاء.
في طبقة المتحف السفلية، يستتبُ مناخ الخشية من خلال تجسيد مادي لخيال كافكا عبر مجسّم آلة التعذيب المُفزعة الخارجة من نصه “المستوطنة الجزائيّة”. ذلك ان الخيال إختلط مع الواقع على نحو مؤلم عند كافكا، وفي أحيان كثيرة. ونكاد نشعر بذلك. والحال انه ألّف على سبيل المثال قصة “الفنان الجائع” القصيرة عن مؤدٍ علني يصوم لأيام عدة في حين كان كافكا الإنسان يتضوّر جوعا بنتيجة إصابته بالتهاب في الحنجرة منعه من الأكل تماما.
كتب كافكا من وجع الجوع هو النباتي الذي قال مرة في فكاهة مُرّة “إن الأمر سهل بالنسبة للنباتيين، ذلك انهم يقتاتون من لَحمهِم”!.
قليلة هي المتاحف المهداة إلى كتّاب وتترك زائريها عند مغادرتها، في حال تململ. متحف كافكا أحدها قطعاً. لكن وفي حال أدركنا الكاتب لا بدّ سنُدرك متحفه أيضا.
النهار

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *