*لانا المجالي
( 1) الكَوْن لَمْ يبْدأ أبيَض
______________
“أفْقِدُ بَياضي. أتلوّن”؛ وتنظرُ المرأة السَّمكة إلى جِلْدِها الأصفَر، وروحها الزرقاء.
– رُبّما لأنَّهُ لَمْ يَكُنْ لونكِ مُنذُ التَكوين”؛ قالَت الشَّجرة، وأكْمَلَت في لحائِها:
” الكَوْن لَمْ يبْدأ أبيَض، أيضا”.
(2) خاتمة
_____________
دَعْني أخمّن؛ .. أنْتَ تركُضُ الآن. منذُ ولادتك، لستَ الاستثناء. أنْت القاعدة، وكلّنا نزاحمك في مضمار العمر قصير المسافة. لا شيء يستدعي تمهّلك فأنت تعرف أين تضع قدميك دون أن تتعثّر بحجر؛ لأنّك تحفظ العالم عَنْ ظهر قلبٍ -ليس لك-.
أنت آمِن، أيضا، إلى حدٍ ما، لكنك تقطع المسافة بسرعةٍ عجيبة نحو خط النهاية حيث تستقبلك (الآخرة) وتدلّك على (مكانك) بإيماءةٍ من رأسها دون أن تلتفت نحوك، كأنّك لم تغادرها. لن أواسيك؛ فأنت لم تخسر إلا حياتهم التي لم تذق غيرها، وها أنت تموت وحدك.
لكن، حسنا، أنت لَم تَمُت بَعد، ولا أنا، وكل ما رغبت في قولهـ هو إننا توقفنا عن اختبار ورصد مشاعرنا الشخصيّة تجاه الأشياء؛ لأنّ البشريّة التي بلغت عمر الحكمة، لا تتوقف عن تزويد القادمين الجدد بـ”دليل الاستخدام”.
وللتوضيح؛ ليس المطلوب من المجتمعات الناشئة أن تبدأ من الصفر المعرفي أو الأخلاقي أو التاريخي أو..الخ، ومن الطبيعي أن نرث كأفراد ومجتمعات إنجازات البشريّة، لكن من الشّاذ استعارة حواسّ ومشاعر (الآخر) ونحن نخوض تجربتنا الشخصيّة في اكتشاف وجهـ الكَوْن وبناء علاقاتنا مع مفرداتهـ؛ الملامح/ الملمس/ الصوت/ الرائحة/ المذاق/ اللون/..الخ.
هل يحدث هذا بالفعل؟ نعم للأسف، والشواهد كثيرة، اختبرت أكثرها تطرفا أثناء إقدامي على كتابة هذه العُجالة حول اللون الأبيض، بعد أن ذُهِلتُ بكميّة (التعميمات) الجماليّة والمشاعريّة التي تحدد لنا مُسبقا، نوع علاقتنا معه، ما دفعني إلى كتابة هذه المقدمة (الخاتمة) دون تخطيط مسبق.
ويكفي أن أشير إلى ما أورده علم النفس بخصوص اختيار الألوان أو رفضها وقبولها، إذ يؤكّد على أنه يعود إلى أسباب متداخلة(فسيولوجيّة/نفسيّة/ اجتماعيّة/دينيّة/ ذوقيّة)، ما يتعارض مع الرمزيّة اللونيّة التي توليها المجتمعات أهميّة بالغة، ويتعارض أيضا، مع الاتجاه الحديث في التصميم والإعلان، لأنّ الرمزيّة الفرديّة، قد لا تتوافق مع الرمزيّة الجمعيّة.
(3) الأبْيَض.. كُنْهُه ونواياه!
_____________________
جرّب أن تكتب مصطلحات (اللون/ الألوان/ اللون الأبيض/ علم النفس اللوني/ سيكولوجيا اللون/ العلاج بالألوان/ دلالات الألوان عند الشعوب/ اللون في القرآن الكريم/…الخ) داخل محركات البحث على شبكة الإنترنت، وستحصل على كمِّ هائل من المقالات والدراسات والكتب المرتبطة، لذا، إن كنت تبحث عن معلومات دقيقة بخصوص هذا الشأن، فلن تجدها هنا، هذه ليست دراسة وهدفي لا يخرج عن كونه إعادة قراءة للأشياء التي اعتدنا أن نمرّ عليها دون اهتمام.
حسنا، لماذا الأبيض تحديدا؟
أولا: لأنّه مجموع ألوان الطيف المرئي، ما يدفعني إلى استنكار الطريقة الساذجة في تأويله، ولا أعرف كيف تجاهل الجميع –على تنوع مرجعياتهم الثقافيّة والبيئيّة والزمنيّة..الخ، التي ينتمون إليها- حقيقة تعدد الأمزِجة فيه؛ الأمر الذي ينفي عنه تهمة “البساطة” التي تلازمه كظلّه. ويقودنا نحو تأويل جديد يعيد للأبيض كرامته، دعوني أقترح:” الأبيض هو مجموع ألوان الطيف المرئي، لذا، لا أحد يستطيع معرفة كُنْهُه، أو نواياه”.
ثانيا: لأنّ القراءات المتعددة لتأويل اللون الأبيض تناقض نفسها- وهو ما ينطبق على بقيّة الألوان أيضا- ، وهو الأمر الذي يدعم اقتراح “ضبابيّة” الأبيض.
لتفسير هذه النقطة الأخيرة، تعالوا نرصد بعض هذه التأويلات//-مع الإشارة إلى أنني سأمر عليها بشكل خاطف، ودون أن أتطرق للرموز الدينيّة التي وردت في الكتب السماويّة؛ لأنّها كثيرة ، ولا يتسع لها المجال في هذه العجالة//- التي ساهمت في تشكيل ثقافتنا وتراثنا وحالتنا النفسيّة وأحلامنا ..الخ، رغم تناقضها داخل البيئة الواحدة في معظم الحالات!.
” الأبيض” كان باستمرار رمزا للاستعلاء والاستبداد إن ربطناه بمفهوم “الرجل الأبيض”، ونجد معنى السيادة واضحا في قول حسان بن ثابت – رضي الله عنه – عندما مدح الغساسنة قبل الإسلام في قوله:
بِيضُ الوُجُوهِ، كريمَةٌ أحسابُهُم
شُمُّ الأنوفِ، من الطّرَازِ الأوّلِ.
أمّا عمرو بن كلثوم فأشار من خلاله إلى االتعطش لدماء الأعداء في معلقته الشهيرة بعد أن قتل عمرو بن هند:
أَبَا هِنْـدٍ فَلاَ تَعْجَـلْ عَلَيْنَـا
وَأَنْظِـرْنَا نُخَبِّـرْكَ اليَقِيْنَــا
بِأَنَّا نُـوْرِدُ الـرَّايَاتِ بِيْضـاً
وَنُصْـدِرُهُنَّ حُمْراً قَدْ رُوِيْنَـا
لكنّه يعني الاستسلام والخضوع في الوقت نفسه؛ إذ يكفي أن ترفع رايتك البيضاء حتى يتركك الخصم، وتستمر المفارقة، فهو يعني النصر، وضمن الإطار نفسه ندرج رمز “الحمامة البيضاء” التي تشير للسلام العالمي.
ثوب الزفاف (الفرح/البداية/النقاء) أبيض؛ وهو تقليد غربي، انتقل إلى ثقافتنا الشرقيّة الإسلاميّة التي تستخدم الأبيض للكفن(الحزن/النهاية)، وهو لون الطفولة، لكن (الشيب) يرمز للشيخوخة.
ونستطيع أن نلمح هذا المفارقة في الإشارات التي يرسلها الأبيض ضمن رموز: ( النور والضوء والدفء والصيف/ الثلج والبرودة والشتاء/البساطة والتواضع/ الكبر والكبرياء/ الصدق/الكذب/العقم والخصوبة/ …الخ).
(4) يوريكا!.. اللامكان/للفنان الفلسطيني بشار الحروب
_________________________________
من اللافت أن تلك النظرة السطحيّة/البسيطة للأبيض؛ اللون شديد التعقيد، كانت شبه عامة، ولا أخفيكم أن حلمي بالقبض على وجهة نظر خارج ذاك الإطار، كان مهمة شبه مستحيلة، لولا أن عثرت على خبر نقلته “رويترز” يتحدث عن افتتاح معرض تشكيلي للفنان الفلسطيني بشار الحروب في رام الله، خلال شهر تشرين الأول/ أكتوبر 2015.
حيث استخدم الفنان الفلسطيني اللونين الأبيض والذهبي، فقط، لرسم الحال في المخيمات التي وصفها بـ”اللامكان”، ويبدو أنه استلهم الفكرة- كما صرّح- من معاناة سكّان مخيم الزعتري الذي يضم لاجئين من سوريا على حدود الأردن.
الرمزيّة التي حلّق بها “الحروب”، مثّلها من خلال مساحات ذهبية تتبعثر فيها البيوت البيضاء، أو أطفال يحملون حقائب ذهبية وسط خلفية بيضاء، أو أطفال يخرجون مما يشبه رحم الأم، وهم يرفعون شارة النصر، ..الخ.
وعبّر عنها بوضوح من خلال “كتيّب” المعرض الذي وزعه على الحضور وقال فيه إن المعرض: “مساحة مفتوحة لتكثيف السؤال حول أن تكون بلا مكان أو وطن أو بيت”، وأضاف: “أن تكون مادة إعلامية تتصدر التقارير التلفزيونية أو واجهات الصحف. هنا وهناك أطفال مشردون تائهون في البياض في اللامكان.”
وحتى لا نخرج عن مسار موضوعنا، فلن نناقش المعرض إلا من خلال الفكرة التي حطّمت قيد النمطيّة، وحلقت إلى آفاقٍ اكثر رحابة، إضافة إلى آنيتها واشتباكها مع الهمّ الإنساني/العربي المشترك، والأهم من هذا وذاك، أن مفهوم (اللامكان)، يفسّر بمنتهى البساطة، ما أطلقتُ عليه “الضبابيّة” أو ” .. لا أحد يستطيع معرفة كُنْهُه، أو نواياه”.
(5) الأبيض.. قوس قزح وموسيقا
_____________________
تتضمن ألوان الطيف المعروفة والمُشاهد في قوس قزح، جميع الألوان التي يولدها الطيف المرئي وحيد طول الموجة، والتي حددها العالم الإنكليزي إسحاق نيوتن (1642-1727) بسبعة ألوانٍ أساسية هي: الأحمر، والبرتقالي، والأصفر، والأخضر، والأزرق، والنيلي، والبنفسجي.
وكان نيوتن يعتقد أنّ كل لون يقابل درجة من درجات السلّم الموسيقي، وبعد ذلك بكثير، جرى اكتشاف أن الألوان وطبقات الموسيقى يتضمنان ترددات الطيف. ومن المثبت أيضا، أن الأبيض هو مجموع ألوان الطيف المرئي، إذ يكفي أن تدير القرص اللوني أو قوس قزح، ليتشكّل اللون الأبيض وينبعث اللحن.
ماذا أريد أن أقول؟
لا نستطيع اختصار الموسيقا بوصف ثابت ومحدد، فهي حزينة أو مبهجة أو صاخبة أو هادئة أو …الخ.
الموسيقا؛ لونك الأبيض. اطلق سراحه من قيود الرمزيّة التي فرضها المجتمع عليك، ولا تسجنه داخل إطار؛ لا تسجن نفسك ضمن إطار، وعش حياتك لا حياتهم.
_________
*المصدر: الجسرة الإلكترونية.