عن القبر كقصاص أخير


*هدى بركات


في الخبر الموسّع الذي أوردته صحيفة ليبراسيون الفرنسيّة، نجحت “المقاومة اللائكية” بعد دعوى رفعتها ابنة المرأة المنتحرة إلى أعلى سلطة قضائيّة في البلاد، نجحت في دفنها تقريبا بحسب ما تريد الأمّ، وتبعا للوصيّة التي تركتها قبل انتحارها.
فـ إيستي ونشتاين، الخمسينية والأم لسبعة أطفال، كان مقرّرا أن تدفن على عجل وبصمت في “قبر ما” بعيدا عن ستّة من أولادها – لأنّ منهم ابنة لحقت بأمّها – وبعيدا من أهلها وأفراد أسرتها. وسبب هذا العقاب الفظيع هو ترك ونشتاين لحركة يهوديّة دينية متشدّدة من الهاسّيديك “الحارديم” ومعناها “الخائفين من الله” كانت عاشت في كنفها بدفع من أهلها، وخيارها بالعيش كامرأة علمانيّة…
تقول الصحيفة إنه عثرعلى جثة ونشتاين بعد ستة أيّام من انتحارها، إذ لم يلحظ أحد اختفاءها لولا إصرار الابنة واسمها تامي. وقد وجدوا وصيّة من 183 صفحة بخطّ اليد، هي أقرب إلى الشهادة، تشرح فيها هذه المرأة أسباب انتحارها. وباختصار فقد زوّجها والداها وهي في السابعة عشرة من رجل كانت رأته مرّة واحدة. كان مطلوبا منها الصمت والطاعة الكاملة والإنصراف للأعمال البيتيّة وإنجاب طفل كل سنة، إلى جانب مراعاة تامّة لسنّة الـ”تاكانوت” – القوانين – بإشراف يومي من الحاخامات إلخ… في حياتها العلمانيّة الجديدة عاشت إيستي وانشتاين ثماني سنوات محرومة من رؤية أولادها وأيّ من أهلها أو أصدقائها الذين أوصدوا أبوابهم بوجهها، إذ اعتبرها هؤلاء ميتة بحكم خروجها عنهم. تصف المرأة شقاءها من هذا الحرمان بأنه صار يفوق الإحتمال. تقول إنّه حكم بالموت، قاهر وظالم ولا مردّ له. فحياتها التي لا ترى فيها مسبّبا لهكذا عقاب سوف تُنهيها بالخيار نفسه: فهي تصرّ – في وصيّتها – على إرادة دفنها بعيدا من مراسمهم، وتبعا لطقوس علمانيّة خالصة…
وتأسف الصحيفة الفرنسيّة على ازدياد قوّة اليمين الديني المتشدّد بشكل لم تعرفه إسرائيل منذ قيامها…
***
في ما كشف عنه علماء الآثار بدا أنّ تهيّب الموت في مجتمعات تُعنى باحترام جثمان الميت وكيفيّة دفنه هو دليل على التمدّن، تمدّنها، وقربها من التحضّر. وأنّ التمثيل بجثث الأعداء المحاربين والتعرّض لقبورهم يقرّب هذه المجتمعات من دلائل تصنيفها في خانة البربريّة والتوحّش…
ثمّ حرّمت الأديان التمثيل بالجثث، ونبش القبور إلاّ في حالات من الضرورة القصوى. الشعر العربي، حتّى ذلك الذي عرفته مرحلة ما قبل الإسلام، جعل القبر الطلل وجهة وعي بالمكان، وانتماءً للبدوي المرتحل. وظلّ القبر، المكان الأخير لرجاء الإستراحة، من رموز الحلم العام، العودة إلى البلاد، إلى الطفولة، إلى رحم الأمّ إلخ… وبحيث يكون أقصى التكريم بإعادة جثمان الميت إلى مكانه الأوّل إن هو توفي بعيدا عنه، ولو بعد طول السنين… وهكذا يبدو الحرمان من القبر أو التمثيل بجثة عدو أقصى العقوبات في النبذ والإقصاء.
ما تفرضه الأديان والحضارات إذن من حرمة القبر يوحي – لي- بانّ هذه المراجع تعتبر أن الجثة، وفي كلّ الأحوال، هي في حكم البريئة. أو هي جسم غدا “محايدا” بمجرّد أن غادرته النفس، ولو كانت آثمة. وفي الحروب التي كانت لها قواعدها، ثم صار لها اتفاقات وشرعة – مثل جنيف- تعاد جثث الجنود الأعداء بما يشابه إعادة الآسرى إلى ذويهم من حيثيّات.
من مرارات ذاكرة الحرب الأهلية التي لا تمّحى هو ما عرفناه وشاهدناه من التمثيل بالجثث. حتّى أن استفحالاتها جعلت أمّهات ثكالى يطالبن بنحر ابن العدو على حافّة قبر الابن الشهيد قبل دفنه… حتّى صرنا، بعد سنوات طويلة، “نكتشف” قبورا جماعيّة في لبنان، وجثثا لا سبيل لمعرفة أصحابها. ثمّ راح البلد يضيق ذرعا بمن يحملون صور من سمّوهم “المفقودين”، وهم يدورون بالصور في زيّاحات أشبه بمسرحيّات العبث القاهر.
وما صرنا نعرفه من علامات الزمان عن وحشيّة داعش هو معاقبة الموت والميتين بعزلهم عن القبر الأهلي. ونفيهم في فراغ القبور الجماعيّة التي سيؤولون إليها.
المرأة اليهودية الإسرائيليّة، لولا إصرار ابنتها الأنتاغوني – نسبة لـ أنتيغون – لأكلها ذلك الوحش إيّاه…
_______
*المدن

شاهد أيضاً

في اليوم العالمي للشعر: كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !

(ثقافات) كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !  هذا ما قاله المكسيكيّ خُوسّيه بَاشِيكُو …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *