*محمد العباس
حتى أكثر المتشائمين والمتوجسين من سطوة شركات الإنتاج وسمعة المسلسلات الخليجية المتردية، لم يتوقعوا أن يصل العبث برواية «ساق البامبو» إلى هذا الحد، فقد تم إتلاف الرواية وإبطال مفاعيلها الأدبية والفكرية والأخلاقية من خلال مسلسل غاية في السطحية والارتجال، وهي جناية فنية يتحملها في المقام الأول سعود السنعوسي، كاتب الرواية، المسؤول ضمن فريق العمل، عن معالجتها وتحريرها وتكويتها، حيث تغاضى عن ذلك التدمير الممنهج لروايته أمام عينيه وتركها مستباحة بالشكل الذي بدت عليه، وقد كان من المفترض أن يكون أكثر وعياً وصلابة في الدفاع عن منجزه، والعمل على إبرازه بصورة تليق بمكانة الرواية في وجدان القراء، الذين علقوا آمالاً كبيرة على تحويلها إلى عمل درامي.
المسلسل الذي شاهدناه يؤكد أن السيناريست رامي عبدالرازق لم يكن مؤهلاً لهذه المهمة، فقد اكتفى بالتقاط معاناة (عيسى/خوزيه) في إثبات كويتيته في بيت/مجتمع له معتقداته الأصولية العنيدة حول مسألة النسب والشرف والمكانة الاجتماعية، وهذا البعد مجرد خيط ضئيل ضمن أحداث الرواية التي تنهض على أبعاد إنسانية أعمق، حيث تحول المسلسل إلى صراع تقليدي حول العمالة المنزلية، والنظرة المتعالية التي يختزنها أفراد المجتمع الكويتي إزاءها، والأسوأ أنه أسقط شخصية نور (شجون الهاجري) بقوة في سياق الأحداث، وأفرد لها مساحة كبيرة لتمارس فيها أسوأ ما يمكن تصوره من عبث بالحمولة الفكرية الأخلاقية الأدبية للرواية، حيث تحول المسلسل بحضورها إلى ملهاة على درجة من الخفة والسذاجة، على الرغم مما بيتته الشخصية من إمكانية توظيفها كصاعق لتعرية زيف العلاقات في بيت (الطاروف) وتحطيم جبروت الجدة غنيمة، كما أنه لم يتمكن من التعامل مع المقولات الثقيلة للثائر الفلبيني خوزيه ريسال، فوضع بعضها على لسان (عيسى/خوزيه) بشكل تلفيقي لا يتناسب مع شخصيته ومنسوب وعيه ومستواه الصوتي،
المقولات ذاتها شكلت ورطة كبيرة لمخرج العمل محمد القفاص، الذي بدا هو الآخر في حيرة تامة أمام تلك الكتلة الكلامية الطافحة بالمعاني والدلالات، فاكتفى بعرض مقتطفات منها على الشاشة كمادة مقروءة، إلى جانب متن الرواية الذي أبان سعود السنعوسي بموجبه عن قدرة إبداعية في الصوغ الأدبي، وهذا العرض الأدائي للعبارات يتنافى مع أبجديات الفن المرئي، خصوصاً أنها من الكثافة والقوة بحيث غطت سياقات المسلسل وتحكمت في مفاصله، وهو ما يعني وجود عجز صريح في تحويل تلك الطاقة اللغوية التي تشكل عماد الرواية إلى رؤية بصرية مؤثرة ودالّة، واللجوء إلى أسهل الحلول الفنية، وهذا هو ما يفسر تحول المسلسل إلى عرض تقليدي بائس من العروض الدرامية المعتادة في المسلسلات الخليجية، إذ لا فارق بينه وبين ما عُرض من مسلسلات، حيث حياة القصور الفارهة، واستعراض بذخ الماركات، وحشو المشاهد بالصراخ، حيث انعدم الحوار الذي يُفترض أن يُشتق من سياق الرواية، وتعالت الصيحات بين أبطال المسلسل الذين كانوا يصرخون في كل مكان وكل المناسبات والمشاهد: البيت والمستشفى والمطعم، تماماً كما يحدث في المسلسلات الخليجية المزدحمة بالعنف اللفظي.
ويبدو أن إعداد الممثلين لأدوارهم لم يتم كما ينبغي، حيث اكتفى كل ممثل بقراءة أحادية لشخصيته وعلى هذا الأساس جسدها، الجدّة غنيمة (سعاد عبدالله) حبست نفسها في دور المتنمرة المتغطرسة، حتى قبل غياب ابنها راشد (عبدالمحسن النمر)، فهي ساخطة على الدوام ومتيقظة إلى حد مبالغ فيه، ولذلك غابت كيمياؤها البشرية، وظهرت كشخصية صارمة ذات نبرة عالية، وقد جسدت هذا البعد بكفاءة، لكنها أهملت الأبعاد البشرية الأخرى لشخصية الجدّة، تماماً كما حدث مع هند (فاطمة الصفي)، التي أدت دوراً كبيراً، إلا أنها لم تبتسم مطلقاً طوال المسلسل، وكأن النضال الحقوقي يتنافى مع فكرة التباسط، وأنه جزء من رجاحة العقل والمنطق على حساب العواطف، حيث لم تعبر عن ميلها لغسان ولو بعبارة تكشف عن بشريتها، والأمر ذاته تكرر مع أختها نورية (مرام) التي أدت دور المرأة المتعنتة ضد أي دخيل على العائلة ببراعة، إلا أنها لم تتحدث مطلقاً بنبرة هامسة أو متودّدة في أي مقطع، بل كانت تصرخ في كل الاتجاهات وكل المناسبات لتؤكد عنادها الطاروفي، أما (نور) فقد كانت في منتهى السذاجة واللامبالاة حتى في المواقف الصعبة، حيث أوكل إليها تمثيل دور البنت الدلوعة البهلولة، وعليه، لم تفرق شجون الهاجري بين التمثيل في مسلسل يحمل قضية على درجة من الحساسية وبين الخفة الشعورية على مسرح للأطفال، وكأنها كانت تلعب في المساحة الواسعة المتاحة لها في المسلسل بانتظار اللحظة التي ستنفجر فيها، وتكشف عن جانب من قدراتها الأدائية،
هكذا انضغطت شخصيات المسلسل في قوالب أحادية البعد، حتى بالنسبة لـ (عيسى/خوزيه) حيث بدا وانهو شونج مكتئباً على الدوام، لا أثر للأحداث أو الزمن على شخصيته أو نبرته، حتى تسريحته وتقطيبته لم تتغير في كل مفاصل المسلسل، وهو ما يعني أن النمو البايولوجي للشخصيات لم يكن في وارد القائمين على المسلسل، لدرجة أن أمّه لم تكبر تقريباً كما بدت في المشاهد المتأخرة، وهنا يمكن استثناء غسان (فيصل العميري) الذي أدى دوراً كبيراً سواء من خلال مظهره المتغير بفعل الزمن، أو عبر أثر الانكسارات على شخصيته ومواقفه، وهذا ما يؤكد أن للممثل القدرة والحرية على تجسيد الشخصية بأبعادها المتعددة إذا ما تحرر من القراءة أحادية البعد، وإذا ما أحس بالفكرة الشاملة للرواية، واستدمج شخصيته بشكل كلي في سياقات الحدث الأعم، وهو الأمر الذي تغافل عنه معظم الممثلين والممثلات.
لا يبدو أن القائمين على المسلسل قد أولوا العناية بالتفاصيل الزمنية والفنية والتوثيقية أي عناية، كما أن الرواية لم تشكل أي إضافة أو فارق في وعي القائمين على العمل، فهناك ارتباك واضح في تزمين الأحداث، وفي توظيف الأدوات الاستعمالية، وفي ضبط الأزياء والفضاءات المكانية، مقابل مبالغات في ضبط إيقاع بيت (الطاروف) من الناحية المظهرية والروحية، فهذا البيت الأصيل المترف لا تحدث فيه إلا المهاترات، حتى على المائدة يحضر الجدال وتغيب المودة، ويتجلى ذلك الإهمال في التفاصيل ضمن مشهد عيسى (عبدالله البلوشي) في المستشفى، حيث خرج من العناية المركزة بعد الحادث بكامل اناقته، وبدون أي أثر جراحي، ناهيك عن تدبير متوالية من المصادفات اللامنطقية، وافتعال منظومة من قصص الحب الجانبية، هي بمثابة حبكات فرعية لا صلة لها بالحبكة الرئيسة التي ابتناها سعود السنعوسي في روايته.
قد تكون شركة الإنتاج (صباح بكتشرز) مسؤولة بشكل مباشر عن تحويل رواية أدبية رائعة إلى مسلسل رديء على كل المستويات، من خلال إقحام نجمة تلفزيونية في المسلسل وتمديد دورها بحيث يطغى على الرواية وعلى سيرورة العمل الدرامي كله، وهذه ذريعة يتمسك بها معظم العاملين في الحقل الفني، حيث تفرض شركات الإنتاج رؤيتها وشروطها على الجميع، وهنا يكمن السر الأكبر للرداءة، أي في التنازلات التي لا حد لها، إذ يتحمل محفوظ عبدالرحمن أيضاً، بصفته المسؤول عن الإشراف الدرامي جانباً من الدمار الذي أصاب الرواية ودمر العمل، حيث كان من المؤمل أن تكون رواية «ساق البامبو» فرصة لتحسين أداء وسمعة الدراما الخليجية، ومحطة مهمة في التعامل مع نص حظي بمقروئية عالية، وأن يثبت كل العاملين والمهتمين بالفن بأنهم على قدر من الوعي والمسؤولية إذا ما توفر النص الصالح لعمل درامي مشرف، ولكن للأسف أثبت الجميع أنهم أقرب إلى التجارة منهم إلى الفن، وأن فرصة إثبات العكس قد ابتعدت عن التحقّق بمراحل.
بمجرد ارتفاع منسوب الجرعة الثقافية في النص يفشل الجميع في التعامل معه من الوجهة الدرامية: الممثل والمخرج والسيناريست والشركة المنتجة، وهو ما يعني أن فشل تحويل رواية «ساق البامبو» إلى مسلسل تلفزيوني، يتجاوز الخيبة الوقتية للمشاهدين المعجبين بالرواية، فلهذا الإحباط ارتداداته الفنية والزمانية والمكانية، حيث تم التفريط في رواية على درجة من الجاهزية لتمثيلها على الشاشة، وتفريغها من مفاعليها يعني أن أي رواية خليجية مقبلة سيكون مصيرها الفني أسوأ، وأن الأمل باعتماد الروايات كمرجعية نصية للأعمال الدرامية بات ضرباً من الخيال، أو المغامرة في أحسن الأحوال، لأن الدراما الخليجية وسيلة لقتل الأدب وليست محلاً لعرضه وتحويل قيمه اللغوية إلى رؤى بصرية، وهذا هو مصدر الخيبة الكبرى التي جعلت من الرواية ضحية لجشع مؤسسات الإنتاج، وغياب الوعي الفني عند المهتمين بالفن، واستخفاف الأدباء بمنتجاتهم الأدبية.
_____
*القدس العربي